- مَسْأَلَةٌ) قَالَ بَعْضُهُم: إِنَّ الطَّلَبَ وَالاسْتِغَاثَةَ بِالصَّالِحِيْنَ هُوَ مِنْ بَابِ الأَسْبَابِ، وَلَا يَعْنِي ذَلِكَ أَنَّهُم يَعْتَقِدُوْنَ فِيْهِم أَنَّهُمْ يَخْلُقُوْنَ وَيَضُرُّوْنَ وَيَنْفَعُوْنَ، وَإِنَّمَا يُسْتَغَاثُ بِهِم لِتَحْصِيْلِ إِغَاثَةِ اللهِ تَعَالَى لَهُم؟!
وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّوَسُّلِ! وَقَد قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيْلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيْلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُوْنَ} (المَائِدَة:35).
وَفِي الحَدِيْثِ (تَوَسَّلُوا بِجَاهِي؛ فَإِنَّ جَاهِي عِنْدَ اللهِ عَظِيْمٌ).
وَقَد تَوَسَّلَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ بِأَبي حَنِيفَةَ النُّعْمَانِ - كَمَا فِي أَوَائِلِ تَارِيْخِ بَغداد لِلخَطِيْبِ البَغْدَادِيِّ رَحِمَهُ اللهُ -.
وَفِي البُخَارِيِّ فِي مَعْرِضِ ذِكْرِ التَّوَسُّلِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلاسْتِسْقَاءِ؛ كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَتَمَثَّلُ شِعْرَ أَبِي طَالِبٍ؛ وَفِيْهِ (وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الغَمَامُ بِوَجْهِهِ ... ثِمَالُ اليَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ) (?)، فَمَا الجَوَابُ عَمَّا سَلَفَ؟؟
الجَوَابُ هُوَ مِنْ أَوْجُهٍ - بِحَوْلِ اللهِ وَقُوَّتِهِ -:
1) أَنَّ دَعْوَى أَنَّ الاسْتِغَاثَةَ بِالصَّالِحِيْنَ سَبَبٌ لِإِجَابَةِ اللهِ تَعَالَى؛ كَذِبٌ عَلَى الشَّرِيْعَةِ، وَإِبْطَالٌ لِلتَّوْحِيْدِ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلِ الاسْتِغَاثَةَ بِخَلْقِهِ سَبَبًا لِلإِجَابَةِ، بَلْ هُوَ سَبَبٌ لِلمَنْعِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُوْنِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِيْنَ} (يُوْنُس: 106).
وَتَأَمَّلْ كَيفَ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى الاسْتِغَاثَةَ بِهِ فِي بَدْرٍ سَبَبًا لِحُصُوْلِ النَّصْرِ؛ رُغْمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَعَهُم، قَالَ تَعَالَى: {إِذْ تَسْتَغِيْثُوْنَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِيْنَ} (الأَنْفَال:9).
وَتَأَمَّلْ حِكْمَةَ اللهِ تَعَالَى كَيْفَ خَلَّا بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَينَ أَعْدَائِهِ فِي أُحُدٍ حَتَّى شَجُّوهُ وَكَسَرُوا رَبَاعِيَّتَهُ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ مِنَ البَشَرِ يَطْرَأُ عَلَيْهِ مَا يَطْرَأُ عَلَى البَشَرِ مِنَ الأَسْقَامِ وَالأَوْجَاعِ، وَلِيَبْطُلَ بِذَلِكَ التَّعَلُّقُ بِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى - وَلَو كَانَ سَيِّدَ البَشَرِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ -. (?)
وَإِنَّ الاسْتِغَاثَةَ بِالمَخْلُوْقِ مُنَاقِضَةٌ لِلعُبُوْدِيَّةِ الخَالِصَةِ للهِ تَعَالَى، حَيْثُ يُجْعَلُ الذُّلُّ وَالخُضُوْعُ وَالإِنَابَةُ وَالتَّعَلُّقُ لِغَيرِ اللهِ تَعَالَى! فَهَذَا مِنْ أَبْطَلِ البَاطِلِ.
وَإنَّمَا يَتَعَيَّنُ عَلَى العِبَادِ جَمِيْعِهِم أَنْ يَعْتَمِدُوا عَلَى خَالِقِ الأَسْبَابِ وَيَرْغَبُوا إِلَيْهِ وَيَسْتَعِيْنُوا بِهِ وَيَعْبُدُوْهُ وَحْدَهُ، قَالَ تَعَالَى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِيْنُ}. (?)
وَتَأَمَّلْ تَفْرِيْقَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ مَا فِي يَدِهِ وَبَينَ مَا عِنْدَ اللهِ حَيثُ قَالَ لابْنَتِهِ: (يَا فَاطِمَةُ - بِنْتَ رَسُوْلِ اللهِ - سَلِيْنِي بِمَا شِئْتِ؛ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا). رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. (?)
وَقَالَ تَعَالَى - عَنْ يَوْمِ القِيَامَةِ أَيْضًا -: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} (الانْفِطَار:19)، وَذَلِكَ لِتَفَرُّدِهِ سُبْحَانَهُ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ بِالتَّصَرُّفِ وَالحُكْمِ وَالتَّدْبِيْرِ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مَعَهُ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ تَصَرُّفٌ وَلَا تَدْبِيْرٌ وَلَا أَمْرٌ وَلَا نَهيٌ، بِخِلَافِ الحَالِ فِي الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ مَلَّكَ أَهْلَهَا مَا خَوَّلَهُم فِيْهَا، فَهُم يَتَصَرَّفُوْنَ فِيْمَا أَعْطَاهُم بِحَسْبِ اخْتِيَارِهِم؛ مَعَ كَوْنِ المِلْكِ وَالأَمْرِ فِي الحَقِيْقَةِ للهِ وَحْدَهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.