وإليها أبدًا مَفْزَعُنا في كُلّ ما عَرَضنا له من الإعراب؛ فليس يخرج شيء مما أوردناه في كتابنا هذا عن أصل من أصول المتقدِّمين، بيد أننا حين عرضناها تبيَّنَ لنا حاجةُ المعاصرين إلى وساطةٍ يُناطُ بها تحصيلُ الثمرة، وتذليلُ القطاف، وذلك من جهات:
أُوْلاها: أن مُصَنَّفات المتقدِّمين لا يكاد يَسْتَقِلُّ أيٌّ منها بإعرابٍ كافٍ مُسْتَوْعِبٍ لشتاتِ وجوه الأعاريب، مُنْتَظِمٍ للآياتِ فُرادى وجُمَعَ، وإنما مدارُ أمرها على اصطفاء ما يراه المُصَنِّف موضوعًا لإشكالٍ، أو مَنَاطًا لتضعيف وجه، أو نُصْرةِ مَذْهَب.
وبذلك كان الاجتزاءُ بأيِّ منها أو ببعضها مُفَوِّتًا لما وعاه غيرُه من خيرٍ كثير، وكان على طالبِ العلم أن يَنْفُضَها جميعًا ليصل إلى قولٍ جامعٍ في المسألة الواحدة، وأنَّى له هذا؟ !
والثانية: أنّ تحصيل الفائدة مجتمعةً في أمر إعراب الآية الواحدة أو الآيات على النحو المتقدِّم ليس نافلةً من الأمر لا يَضِيرُ فواتُها؛ فَوَثاقةُ العلاقةِ بين تَعَدُّد وجوه الأعاريبِ وتعدُّدِ وجوهِ التأويل في النصِّ الكريم مشهورة مستفيضةٌ، ومن هنا لم يكن الإعرابُ نحوًا بَحْتًا، ولكنه -إلى ذلك- مَشْغَلَةُ الفقهاء والبلاغيين والأصوليين والمتكلِّمين، وكُلِّ من وُصِلَت أسبابُه بعلوم العربية وثقافتها.
والآخرة: أنّ مبنى عبارة المتقدِّمين على الاختصار واللَّمْح؛ لأنْ المخاطَبِينَ بها -في الغالب الأَعَمّ- هم من أهل الصِّناعة، ولديهم صَدْرُ عِلْمٍ بالمسائل، وإيلافٌ للمصطَلَح. أَمّا المخاطَبُون بعبارتنا في هذا الزمان فإنّ التفاوت راتِبٌ فيهم، ورُبَّما وقف كثير منهم عند عبارة من عبارات القدماء لا يستطيعون معها حِيْلَةً، ولا يهتدون سبيلًا. فإذا كان ذلك، ثبتت الحاجةُ إلى سِفْرٍ هو نَسيقٌ من كُلِّ ما تضمّنته المصادر المعتمدة من وجوه الإعراب في الموضع الواحد، ليكون قيدًا للأوابد، وجامعًا لشتات الفوائد؛ في عبارةٍ دالَّةٍ لا تقع دون القديم سُقُوطًا، ولا تتجاوز ذَرْع المُحْدَثين فُرُوطًا.
أمَّا ما كان من كُتُبِ المعاصرين في هذا الباب ففيها من الجهد ما هو حقيقٌ بالشُّكران، بَيْدَ أنَّ فيها من الفَوَات ما فيه مَنْبَهَةٌ لما كان ينبغي أن يُوضَعَ فلم يُوضَعْ،