الوجه من خشية الله، وقال بعضهم: ليس هو النحول والصفرة ولكنه نور يظهر على وجوه العابدين يبدو من باطنهم على ظاهرهم يتبين ذلك للمؤمنين ولو كان في زنجى أو حبشي. وعن عطاء - رحمه الله - استنارت وجوههم من طول ما صلوا بالليل، وفي الأثر: (مَن كثُرت صلاته بالليل حَسُنَ وجهه بالنهار)، وأخرج الطبراني في الأوسط والصغير وابن مردويه بسند حسن عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله - تعالى -: (سِيمَاهُمْ في وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ): "النور يوم القيامة". قال الإِمام الآلوسي: ولا يبعد أن يكون النور علامة في وجوههم في الدنيا والآخرة، لكنه لما كان في الآخرة أظهر وأتم خصه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالذكر.
(ذَلِكَ) إشارة إلى ما سبق من صفاتهم الحميدة وشمائلهم العظيمة، وجاء اسم الإشارة (ذَلِكَ) الذي يدل على البعد للإيذان بعلو شأنهم وبعد منزلتهم في الكمال والفضل.
وقوله - تعالى -: (مَثَلُهُمْ في التَّوْرَاةِ) أي: وصفهم العجيب الشأن الجاري في الغرابة مجرى المثل لكونهم على صورة فريدة طيبة ومثال غريب لتميزهم في عباداتهم، وأنهم أُسوة لسواهم، وقدوة يحتذيها غيرهم ممن يأتي بعدهم، وجاء هذا الوصف الجليل لهم في الكتاب الذي أنزله الله على سيدنا موسى - عليه السلام - وهو التوراة.
(وَمَثَلُهُمْ في الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ) أي: وصفتهم العظيمة في الإنجيل الذي أنزله الله على سيدنا عيسى - عليه السلام - كزرع أَخرج فِراخه من أَغصان وأَفنان وأَوراق، فتفرعت في جانبيه فأعانه ذلك وقوّاه فصار من الدقة إلى الغلظ، واشتد فاستقام وانتصب هذا الزرع على أصوله وقصبه وسيقانه.
(يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) أي: معجبًا لهم بقوته وكثافته وغلظه وحسن منظره، وخص الله - سبحانه - الزُّرَّاع بالذكر؛ لأنّهم أعرف من غيرهم بِجيِّد الزرع من رديئه، وبِقَوِيِّه من ضعيفه، ويحيطون علمًا بآفاته وعلله وعيوبه، فإذا أعجبهم وظفر باستحسانهم له - وهم أهل الخبرة فيه - فسواهم أولى وأجدر بالإعجاب، وأحق أَن يحظى لديهم بما يملأُ نفوسهم رضًا عنه وانفعالًا به.