المعنى الرابع: قيل يشبه كتب اللَّه المنزلة على أنبيائه، لما يتضمنه من أمر ونهي وترغيب وترهيب وإن كان أعم وأعجز.
قلت: وهذ الآية حقًا تدل على إعجاز وسموّ هذا القرآن، فقد نزل على مدة طويلة نحو ربع قرن من الزمن، وجاء أوله يصدق آخره وأوسطه، فلا مفاجآت ولا تناقضات ولا خلل، فلو كان من عند غير اللَّه لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا، ولو كان مؤلفه بشرًا لظهرت فروق في الفهم والوعي والإدراك والمعالجة على طول ربع قرن، ولكنه الوحي كلام اللَّه خالق وبارئ الكون والبشر. وقد جمع كل ما يحتاجه الناس في حياتهم من أمرٍ ونهي وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال وَعِبَر، وما يحتاجونه للتزود من أجل النجاة في معادهم من نار سقر. كما قال جل ثناؤه في سورة القمر: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}. إلى قوله: {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ}. فهو متشابه في الأصل والحسن والحكمة.
لقد أخرج ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه بإسناد حسن عن ابن مسعود عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: [كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف: زجر وأمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال، فأحلوا حلاله وحرموا حرامه وافعلوا ما أمرتم به وانتهوا عما نهيتم عنه واعتبروا بأمثاله واعملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه وقولوا آمنا به كل من عند ربنا] (?).
وأما تسميته "حديثًا" قال الشوكاني: (لأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يحدث به قومه ويخبرهم بما ينزل عليه منه).
ونُصب قوله {كِتَابًا} على أنه بدل من {أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} يكون قوله {مُتَشَابِهًا} صفة لـ {كِتَابًا}. ويجوز نصب {كِتَابًا} على أنه حال. وقد جاء معنى الحديث أنه القرآن في أكثر من موضع في كتاب اللَّه عز وجل: كقوله في سورة المرسلات: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}. وكقوله في سورة النجم: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ}. وكقوله في سورة النساء: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا}. وكقوله في سورة القلم: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ}.
وقوله {مَثَانِيَ}. أي: تثنى فيه الأخبار والمواعظ والحكم والأمثال، ومن روعته