فيفسد قلبه ودينه، وإنما جعل اللَّه مع الضيق فرجًا، ومع الظلم مخرجًا، ومع الإحاطة والقيد متسعًا، فليهاجر في الأرض المؤمنون إلى حيث تعلو كلمة الحق ويأمنون على دينهم ولا يشركون باللَّه ربهم. كما قال جل ثناؤه في سورة النساء: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}. وكما قال جل ثناؤه في سورة العنكبوت: {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}.
فاللَّه سبحانه يغار، ولا يحب أن يرى عباده في ذل وهوان، وذبذبة ونفاق للطغيان، بل يحبهم مترفعين بكبرياء الإيمان، ومتعززين بطاعة اللَّه والخشية له والإحسان، فإذا لم يأمنوا على دينهم في مكان فليتحولوا وليهاجروا من مكان إلى مكان.
فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: [إن اللَّه تعالى يرضى لكم ثلاثًا، ويكرهُ لكم ثلاثًا، فيرضى لكم أنْ تعبدوه ولا تشرِكوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل اللَّه جميعًا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا مَنْ ولاه اللَّه أمركم، ويكره لكم قيل وقال، وكثرةَ السؤال، وإضاعة المال] (?).
وفي الصحيحين والمسند عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: [إن اللَّه تعالى يغارُ، وإنّ المؤمن يغار، وغيرة اللَّه أن يأتيَ المؤمن ما حرّمَ اللَّه عليه] (?).
وفي الصحيحين عن أنس، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: [إن اللَّه تعالى يقول لأهون أهلِ النار عذابًا: لو أنّ لك ما في الأرض من شيء كنتَ تفتدي به؟ قال: نعم، قال: فقد سألتك ما هُوَ أهونُ من هذا وأنت في صُلبِ آدم أن لا تشرك بي شيئًا فأبيتَ إلا الشرك] (?).
فالمعنى الأول: المراد بالأرض سعة البلاد والأقطار والأمصار في الدنيا، وهو موافق للسياق، وبه قال ابن جرير وابن كثير والقرطبي وجمهور من المفسرين.