قال مجاهد: (فهاجروا فيها وجاهدوا واعتزلوا الأوثان والمعاصي واهربوا منها مهاجرين إلى أرض الإسلام والطاعة). وقال ابن جرير: (وأرض اللَّه فسيحة واسعة، فهاجروا من أرض الشرك إلى دار الإسلام).
وقال القرطبي: (فهاجروا فيها ولا تقيموا مع من يعمل بالمعاصي). وأفاد القاسمي فقال: ({وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} أي بلاده كثيرة. فمن تعسر عليه التوفر على الإحسان في وطنه، فليهاجر إلى حيث يتمكن منه. ثم نقل عن الشهاب قوله: لأن الدنيا مزرعة الآخرة، فينبغي أن يلقى في حرثها بذر المثوبات. وعقب بهذه الجملة لئلا يعتذر عن التفريط بعدم مساعدة المكان، ويتعلل بعدم مفارقة الأوطان، فكانَ حثًّا على اغتنام فرصة الأعمار وترك ما يعودتى من حبّ الديار، والهجرة فيما اتسع من الأقطار). وذكر النسفي هذا المعنى فقال: (أي لا عذر للمفرطين في الإحسان البتة، وحتى إن اعتلوا بأنهم لا يتمكنون في أوطانهم من التوفر على الإحسان قيل لهم: فإن أرض اللَّه واسعة وبلاده كثيرة، فَتَحَوَّلُوا إلى بلاد أخر. واقتدوا بالأنبياء والصالحين في مهاجرتهم إلى غير بلادهم ليزدادوا إحسانًا إلى إحسانهم وطاعة إلى طاعتهم).
والمعنى الثاني: قيل المراد أرض الجنة رغبهم في سعتها وسعة نعيمها، واحتجوا بقوله: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [آل عمران: 133]، فإن الجنة قد تسمى أرضًا. وبقوله: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ}.
والمعنى الثالث: قيل المراد بسعة الأرض سعة الرزق. قال القرطبي: (فتكون الآية دليلًا على الانتقال من الأرض الغالية إلى الأرض الراخية، كما قال سفيان الثوري: كن في موضع تملأ فيه جرابك خبزًا بدرهم).
قلت: والمعنى الأول أظهر وأشهر، وهو مناسب لسياق الآية في الحث على الطاعة وعدم الخنوع والمهانة، والاعتزاز بدين اللَّه الحق سبحانه، واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}. أي: إنما يستقبل اللَّه المؤمنين الصابرين على إقامة أمره في الأرض، والباذلين للمال والنفس في سبيله، والمجاهدين لأعدائه بالحديد وأسباب القوة من أجل نصرة دينه، والمسترخصين للدماء وإن غلت عليهم من أجل تحكيم منهاجه وشرعه، والمهاجرين المغتربين من أجل توحيده وعدم الشرك به، والمتصبِّرين على مصائب الدنيا وامتحانات اللَّه سبحانه،