وانظر كيف بدأ هذا الحديث.. بتلك القافات المتكررة، وما فيها من ثقل وتقلّع، ثم تلك الواوات والياءات، وما فيها من رخاوة وتميّع.. إنك لو ذهبت تسرع بقراءة الآية الكريمة: «قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ» لما استجاب لك لسانك، ولعقلته تلك الكلمات والحروف، عن أن يجاوز الحركة البطيئة المقدورة له فى هذا الموقف.. وإلّا تعثّر واضطرب.
ثم يأخذ النعاس ينجلى شيئا فشيئا، حتى يصحو القوم صحوة واعية، فإذاهم يتدبرون أمرهم، ويأخذون فى العمل.. وإذا الكلمات تحيا على شفاههم، وتأخذ طريقا جادّا حازما..
- «فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً» ! وينتقل المنظر من الكهف إلى المدينة.. وإذا رسول الجماعة يسعى هناك، مقتصدا فى مشيته، مكثرا من التلفّت التائه فى هذا العالم الغريب، الذي يراه كما يرى النائم حلما يطوّف به فى عالم غير عالمه الذي عاش فيه! وفجأة ينكشف أمر الرجل لأهل المدينة، وإذا هو ظاهرة غريبة، أشبه بالظواهر الكونية التي تبغت الناس.. وإذا رجّة طاغية تستولى على المدينة كلها، وإذا الناس جميعا إلى حيث الرجل، كأنما يساقون إلى الحشر..
والذي انكشف للقوم من غرابة الرجل، هو غرابة هيئته فى زيّه، ثم إن الذي نمّ عليه كذلك، هو هذا النقد الذي قدّمه ليشترى به طعاما..
فالزّى الذي يتزيّا به الرجل قديم، من زمن مضى لا يلتقى مع زىّ القوم فى هذا الوقت الذي طلع عليهم فيه، إذ أن الناس يستحدثون فى كل زمن زيّا