فالشمس هنا كأنها جزء من هذا الكهف، قد شغلت به عن الدنيا كلّها، وجعلت مدار فلكها حوله وحده، حتى لكأنها مسخرة لمن هم فى هذا الكهف دون الكائنات كلها، وحتى لكأنها أمّ حانية عليهم، ترعاهم بعينها، وتظلّهم بظلها: «إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ.. وَإِذا غَرَبَتْ.. تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ!» .
وهنا تأخذ الحياة تظهر شيئا فشيئا، فى هذا السكون المطبق.. فهؤلاء النيام يتقلبون ذات اليمين وذات الشمال.. وكلبهم قائم بالحراسة فى مداخل الكهف «باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ!» إنه لمنظر عجيب! حياة تدب فى هذا الموات العريض.. حيث لا يقع فى الوهم أن كائنا حيّا يسكن إلى هذا الكهف، الذي يفغر فاه ليلتهم كلّ من يدخل إليه، اللهم إلا أن تكون جماعة من الجن، أو نفرا من الشياطين:
«لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً» .
ثم ما هى إلا كرّة من كرات الزّمن، حتى تكتمل الحياة، ويصحو القوم، ولا تزال على أعينهم أطياف الكرى.. يتثاءبون، ويتمطّون، وبين التثاؤب والتمطّى، يدور بينهم حديث متخافت، متخاذل، متكسّر.. يصحب معه بقية من أثر هذا النعاس الثقيل.. وإنك لا تجد أبرع ولا أروع ولا أدقّ ولا أصدق من كلمات الله، فى تصوير هذا المشهد، الذي تتحرك فيه الكلمات متثاقلة متباطئة تتقلّع من أفواههم كما تتقلّع خطا المقيد يمشى على كثيب من الرمال! «قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ؟ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ.. قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ.. فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ.. فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ.. وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً.. إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً» .