ثم اختلفوا في صورة توبته فمذهب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- والشعبي وغيره أن توبته لا تكون إلا بأن يكذب نفسه في ذلك القذف الذي حد فيه، وهكذا فعل عمر فإنه قال للذين شهدوا على المغيرة: من أكذب نفسه أجزت شهادته فيما استقبل، ومن لم يفعل لم أجز شهادته، فأكذب الشبل بن معبد، ونافع بن الحارث بن كلدة أنفسهما، وتابا وأبى أبو بكرة أن يفعل، فكان لا يقبل شهادته، وحكى هذا القول النحاس عن أهل المدينة ..
قد يقول قائل: كيف يكذب نفسه وقد رأى الأمر حقيقةً بعين رأسه؟ هو فيما بينه وبين ربه صادق، رأى الفعل صادقاً، فكيف يشترط في قبول توبته إكذاب نفسه وهو صادق في حقيقة الأمر؟ وإذا أردنا من إنسان أن يكذّب نفسه في أمرٍ قد صدق فيه، أمر صدقه فيه قطعي بالنسبة له، كلفناه بمحال، يعني لو قلنا: لشخص يرى هذه اللمبة، يقول: إني رأيت هذه اللمبة أو هذه الشمعة والعة، ورأيت الشمس طالعة في النهار، ثم ألزمناه أن يكذب نفسه لأمرٍ من الأمور، هل يستطيع أن يكذب نفسه؟ تصور في هذا القاذف من الثلاثة أنه رأى، بل الثلاثة كلهم رأوا، المسألة مسألة حكم شرعي، فكونهم يحدون هذا حكم شرعي، ولو كانوا صادقين، لأن النصاب ما تمّ، النصاب الذي يرفع عنهم الحد ما تم، إذاً يلزمهم الحد، وكوننا نطالبهم بأن يكذبوا أنفسهم هل هذا مرده أن الأمر لم يقع، وأنهم تراجعوا عن شهادتهم، وهم يجزمون بأن الأمر قد وقع؟ فكيف يلزم الإنسان بما يخالف الواقع؟ أو نقول: أن أيضاً التكذيب حكم شرعي فائدته صيانة عرض المسلم، فيكذب نفسه فيما بينه وبين الناس، وإن كان في حقيقة الأمر والواقع أنه صادق؟ يعني يكذب نفسه من أجل المصلحة الراجحة، وإلا إذا قال: ليس بصحيح، أنا ما رأيته يزني، وقد رأى هذا كذب، مخالف للواقع، مثل هذا إنما هو مجرد حكم شرعي لا يلتفت فيه إلى الواقع، وإنما يلتفت فيه إلى ما شرعه الله -جل وعلا- من صيانة عرض المسلم حتى يتم النصاب.
وقالت فرقة منها مالك -رحمه الله تعالى- وغيره: توبته أن يصلح ويحسن حاله وإن لم يرجع عن قوله بتكذيب، وحسبه الندم على قذفه، والاستغفار منه، وترك العود إلى مثله ..
وجاء في الحديث: ((الندم توبة)) فإذا ندم على ذلك صحّت توبته.