الثامنة: قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [(20) سورة الفرقان] أي إن الدنيا دار بلاء وامتحان، فأراد سبحانه أن يجعل بعض العبيد فتنةً لبعض على العموم في جميع الناس، مؤمن وكافر، فالصحيح فتنة للمريض، والغني فتنة للفقير، والفقير الصابر فتنة للغني، ومعنى هذا أن كل واحدٍ مختبر بصاحبه، فالغني ممتحن بالفقير عليه أن يواسه ولا يخسر منه، والفقير ممتحن بالغني عليه ألا يحسده ولا يأخذ منه إلا ما أعطاه، وأن يصبر كل واحد منهما على الحق كما قال الضحاك في معنى: {أَتَصْبِرُونَ} أي على الحق، وأصحاب البلايا يقولون: لمَ لمْ نعاف؟ والأعمى يقول: لمَ لمْ أجعل كالبصير؟ وهكذا صاحب كل آفة، والرسول المخصوص بكرامة النبوة فتنة لأشراف الناس من الكفار في عصره، وكذلك العلماء وحكام العدل، ألا ترى إلى قولهم: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [(31) سورة الزخرف]
يعني من مكة أو الطائف، من القريتين مكة أو الطائف ويعنون بذلك أبا جهل وعروة بن مسعود الثقفي، يقترحون على الله -جل وعلا- أن لو أرسل بدل محمد -عليه الصلاة والسلام- من هذه القريتين رجل عظيم لا رجل يتيم، لكن الله أعلم حيث يجعل رسالته، وأما بالنسبة للابتلاء، ابتلاء الناس بعضهم ببعض فهذا ظاهر، فالفقير مبتلى بالغني، فعليه ألا يحسده ولا يسعى في ضره، وكذلك الغني مبتلى بالفقير كما قال المؤلف عليه أن يواسيه من ماله ولا يبخل عليه، وكذلك العالم بالطالب، والطالب بالعالم، وكل نوعين متضادين مبتلىً بعضهما ببعض، ولكل منهما ما يخصه من خطاب الشرع.
فالفتنة أن يحسد المبتلى المعافى، ويحقر المعافى المبتلى، والصبر: أن يحبس كلاهما نفسه هذا عن البطر وذاك عن الضجر، {أَتَصْبِرُونَ} محذوف الجواب يعني أم لا تصبرون؟ فيقتضي جواباً كما قاله المزني، وقد أخرجته الفاقة فرأى خصياً في مراكب ومناكب فخطر بباله شيء فسمع من يقرأ الآية: {أَتَصْبِرُونَ} فقال: بلى ربنا نصبر ونحتسب، وقد تلا ابن القاسم صاحب مالك هذه الآية حين رأى أشهب بن عبد العزيز في مملكته عابراً عليه، ثم أجاب نفسه بقوله: سنصبر.