ثم قال: [فإذا استوى على راحلته لبى فقال: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، والتلبية في الإحرام مسنونة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها وأمر برفع الصوت بها، وأقل أحوال ذلك الاستحباب.
وروى سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يلبي إلا لبى ما عن يمينه من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من ههنا وههنا)، رواه ابن ماجه.
ويستحب أن يبدأ بالتلبية إذا استوى على راحلته؛ لما روى أنس وابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ركب راحلته واستوت به قائمة أهل) أخرجه البخاري.
وقال ابن عباس: (أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم الإحرام حين فرغ من صلاته، فلما ركب راحلته واستوت به قائمة أهل)، يعني: لبى، ومعنى الإهلال: رفع الصوت من قولهم: استهل الصبي إذا صاح].
أهل يعني: رفع صوته بالتلبية؛ لأنهم كانوا إذا رأوا الهلال صاحوا بأعلى أصواتهم، ومنه استهلال الطفل صارخاً، نقول: استهل الغلام، يعني: رفع صوته؛ وهنا نقطة مهمة جداً يبينها ابن تيمية: أن الهلال لا نسميه هلالاً إلا إذا استهل به أهل الأرض وصرخوا به، يعني: عرفوه، وأخبر بعضهم بعضاً أن الهلال قد ظهر وبدا.
فلو ولد الهلال ولم يستهل به لا يسمى هلالاً.
إذاً: هنا نقول: العبرة في ثبوت الهلال هي استهلال الناس به وليس ميلاده.
ولذلك إذا استهل الصبي صارخاً بعد مولده تثبت له الأحكام الشرعية، فإذا استهل صائحاً بعد ميلاده ثم مات يرث؛ لأنه ثبتت له الحياة باستهلاله صارخاً، فالاستهلال هذا يثبت له به أحكام شرعية، أما إن نزل من بطن أمه ميتاً فلا يثبت له الميراث؛ لأنه لم يستهل صارخاً.
ثم قال: [والأصل فيها أنهم كانوا إذا رأوا الهلال صاحوا فيقال: استهل الهلال، ثم قيل لكل صائح: مستهل.
وإنما يرفع صوته بالتلبية؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال والتلبية)].
رفع الصوت بالتلبية هذا بالنسبة للرجال، أما بالنسبة للنساء فتسمع المرأة نفسها ولا ترفع صوتها، وكان الصحابة إذا ما أحرموا عند الميقات بقوا يلبون حتى تذهب أصواتهم، أما نحن فأول ما نحرم من الميقات حتى نصل إلى الكعبة لا أحد يلبي إلا من رحم الله، وإذا لبى أحد الناس تعجب الناس منه وقالوا: ماذا يصنع هذا؟ فالمحرم يرفع الصوت بالتلبية إلى أن يبلغ الكعبة وحينئذ تنقطع التلبية إن كان معتمراً، وبعض الناس لا يلبي إلا إذا دخل مكة، وهذا غير صحيح، فالسنة: أنك بعد الإحرام من الميقات تستمر في تلبية، وانظر إلى فعل ابن عمر؛ فقد كان ابن عمر يرفع صوته بالتلبية فلا يأتي الروحاء حتى يضمحل صوته.
وفي الحديث: (أفضل الحج العج والثج)، والعج هو رفع الصوت بالتلبية، والثج: إراقة الدماء.
وقال ابن عباس: رفع الصوت زينة الحج، فزينة الحج أن يرفع صوته بالتلبية فيلبي بعد إحرامه.
قال: [ولا يجهد نفسه في رفع الصوت زيادة عن الطاقة؛ لئلا ينقطع صوته فتنقطع تلبيته].
يعني: أن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، فتجد بعضهم أول ما يأتي الميقات يحرم ويرفع صوته فوق الطاقة فلا يلبث إلا قليلاً حتى يذهب صوته، فلا رفع فوق الطاقة ولا خفض بحيث لا يسمع أحداً، وإنما تلبية بصوت معتدل.
ثم قال: [وجاء في الصحيحين عن ابن عمر: (أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)].
والتلبية مأخوذة من قولهم: لب بالمكان إذا لزمه].
يعني: إذا لزم المرء مكاناً يسمى لب بالمكان، يعني: لزم المكان وأقام به ولم يفارقه، فتقول: أنا يا رب! ملازم لطاعتك، ومفارق للمعصية.
ثم قال: [فكأنه قال: أنا مقيم على طاعتك وأمرك غير خارج عن ذلك ولا شارد عليك].
كرر لفظ (لبيك) لأنه أراد إقامة بعد إقامة، يعني: أنا أستجيب لأمرك إجابة تلو إجابة.
(لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، أن الحمد والنعمة لك) يعني: ألبي لأنك لك الحمد، ويجوز: (إن الحمد والنعمة لك) أي: الحمد لك، فتكون (إن) أعم و (أن) أخص؛ ولذلك ابن حجر يقول: (ربنا ولك الحمد) عند الاعتدال من الركوع أفضل من: (ربنا لك الحمد)؛ لأن فيها ثناءين على الله عز وجل: الثناء الأول: (ربنا) أثبت أن الله رب، الثناء الثاني: (ولك الحمد)، وأما (ربنا لك الحمد) فجملة واحدة، إذاً: الأولى أفضل، هذا كلام ابن حجر، وهذا صحيح.