قال المصنف رحمه الله تعالى: [فصل في حجه وعمره.
روى همام بن يحيى عن قتادة قال: قلت لـ أنس: كم حج النبي صلى الله عليه وسلم من حجة؟ قال: حجة واحدة، واعتمر أربع عمر: عمرة النبي صلى الله عليه وسلم حين صده المشركون عن البيت، والعمرة الثانية حيث صالحوه من العام المقبل، وعمرة من الجعرانة حيث قسم غنيمة حنين في ذي القعدة، وعمرته مع حجته.
صحيح متفق عليه.
هذا بعد قدومه المدينة، وأما ما حج بمكة واعتمر فلم يحفظ، والذي حج حجة الوداع ودع الناس فيها، وقال: (عسى ألا تروني بعد عامي هذا)].
بعد أن ذكر المصنف أولاده عليه الصلاة والسلام ذكر حجه وعمرته.
ذكر الحج والعمرة لأنها لا تفعل -عادة- بكثرة، ولأنه عليه الصلاة والسلام كان يصوم ويصلي بين الناس بشكل يرونه يومياً، ثم بين ماذا كان من حجه وعمرته عليه الصلاة والسلام كما سمعتم.
والنبي عليه الصلاة والسلام اعتمر أربع عمر، العمرة التي كانت في عام الحديبية سنة ست، أحرم من ذي الحليفة من المدينة، وانطلق إلى مكة، فلما وصل إلى الحديبية بركت الناقة، فقال الصحابة: خلأت القصواء! فقال: (والله ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، والذي نفسي بيده! لا يسألونني اليوم خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها).
فبين عليه الصلاة والسلام عظمة حرمة البيت، وكانت إشارة من الله أنه لم يدخل البيت، وقول الصحابة: خلأت القصواء بمعنى: بركت من غير علة ظاهرة.
وقال عليه الصلاة والسلام: (حبسها حابس الفيل) أي: أن بيت الله عظيم.
فطلبت منه قريش ألا يدخل مكة في صلح الحديبية المشهور، فقبل عليه الصلاة والسلام ورضي، وهذا يجب أن يفقهه كل من يدعو إلى الله، فلا ينتصر لنفسه، فليس شيئاً تلذذت به لا بد أن تمضيه، بل انظر أين مصلحة الإسلام، فهذا نبي الأمة ورأس الملة يحرم من ذي الحليفة ويقطع كل هذه المسافات حتى يصل إلى مكة، ثم يقبل أن يحل إحرامه ويرجع كما جاء من غير أن يدخل مكة؛ لأنه رأى أن الصلح فيه مصلحة للإسلام والمسلمين، وكأن صلح الحديبية فتحاً عظيماً، فقد دخل كثير من الناس في دين الله أفواجاً، فأنزل الله عليه وهو راجع إلى المدينة: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} [الفتح:1].
ولما أمر الصحابة أن يحلوا إحرامهم لم يستجيبوا، ولا يعني هذا أنهم كانوا يعاندون النبي عليه الصلاة والسلام، حاشاهم، وإنما قد لا يطيعك من يحبك ويتغلب عليه حال السفيه، فلما أمرهم عليه الصلاة والسلام أن يحلوا إحرامهم لم يفعل أحد، فدخل على أم سلمة فأخبرها بما لقي من الناس، فـ أم سلمة تعلم محبة الصحابة للنبي عليه الصلاة والسلام فأشارت عليه أن يحلق رأسه وينحر الهدي، فحلق رأسه ونحر الهدي، فاستجاب الصحابة؛ لأنهم رأوا أنه أمر واقع، فحلقوا رءوسهم ونحروا هديهم حتى أصابهم الغم وكاد يقتل بعضهم بعضاً.
وهذه العمرة لم تتم، لكن المصنف ذكرها كما ذكرها أهل السير من قبل؛ لأنه أحرم بها صلى الله عليه وسلم.
وكان من شروط صلح الحديبية أن يعود صلى الله عليه وسلم ثم يعتمر من العام القابل، فلذلك دخل مكة في العام التالي في السنة السابعة، أحرم من ذي الحليفة ودخل مكة وأقام فيها ثلاثة أيام، فهذه أول عمرة أداها النبي صلى الله عليه وسلم كاملة في الإسلام.
والعمرة الثالثة كانت بعد غزوة حنين، حيث نزل عليه الصلاة والسلام إلى الجعرانة وهي حل خارج مكة ودخل مكة ليلاً، ثم اعتمر ورجع في نفس الليلة أو في صباحها إلى الجعرانة وأكمل مسيره بعد ذلك إلى المدينة، وإحرامه من الجعرانة دليل على أن الجعرانة حل؛ لأنها لو كانت حرماً لما جاز أن يحرم منها.
وابن القيم رحمه الله تعالى أغلظ كثيراً في زاد المعاد على ما كان يصنعه أهل مكة في أيامه من أنهم كانوا يحرمون من الجعرانة، وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم منها لأنها وافقت محله.
وبعض المالكية يقول: إن الجعرانة هي أفضل حل على وجه الأرض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم منها ولم يحرم عليه الصلاة والسلام من حل إلا الجعرانة، ولما أحرم من المدينة فالمدينة حرم، وأحرم بالحج من مكة ومكة حرم، ولم يحرم من حل إلا من الجعرانة، هذه الفضائل قد يصيب أصحابها وقد لا يصيبون.
العمرة الرابعة كانت مع حجته؛ لأنه حج قارناً عليه الصلاة والسلام.
من هذا يتحرر أن العمر الثلاث كلهن كن في شهر ذي القعدة، حتى عمرة الحج أحرم بها في شهر ذي القعدة لكنه لم يؤديها إلا في شهر ذي الحجة، لأنه ما وصل مكة إلا قد ودخل هلال شهر ذي الحجة.
هذه الأربع العمر التي ثبتت عنه صلى الله عليه وسلم، أما الحج فلم يحج في الإسلام إلا حجة واحدة سميت بحجة الوداع؛ لأنه ودع الناس فيها، وهي حجة عظيمة علم عليه الصلاة والسلام أنه لن يحج غيرها فأعلن للناس أنه سيحج، فقدم المدينة خلق كثير كلهم يريد أن يأتم بحجته عليه الصلاة والسلام، وفيها كثير من الفوائد، فقد ذكر في خطبته فيها كثيراً من قواعد الدين، وأوصى بالنساء خيراً، وجعل ربا الجاهلية تحت قدميه، وأقام كثير من قواعد الإسلام، وبين حرمة الدماء والأعراض والأموال، وهي حجته صلوات الله وسلامه عليه، والله أعلم إن كان قد حج عليه الصلاة والسلام أو اعتمر قبل الإسلام وهو في مكة، وما ينقل من ذلك هو بطرائق غير صحيحة أو غير مكتملة السند فلا نستطيع أن نحكم عليه بالصحة.