قال المصنف رحمه الله تعالى: [فصل في معجزاته صلى الله عليه وسلم.
فمن أعظم معجزاته وأوضح دلالاته القرآن العزيز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، الذي أعجز الفصحاء، وحير البلغاء، وأعياهم أن يأتوا بعشر سورة مثله، أو بسورة أو بآية، وشهد بإعجازه المشركون، وأيقن بصدقه الجاحدون والملحدون].
القرآن الكريم معجزة نبينا الخالدة، وهو معجز في لفظه ومعناه، قال شوقي رحمه الله: جاء النبيون بالآيات فانصرمت وجئتنا بحكيم غير منصرم [وسأل المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر، فانشق حتى صار فرقتين؛ وهو المراد بقوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى زوى الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منه) وصدق الله قوله بأن ملك أمته بلغ أقصى المشرق والمغرب، ولم ينتشر في الجنوب ولا في الشمال].
هذا فيه نظر، فليس المقصود المشرق والمغرب تحديداً، وإنما المقصود انتشار الدين في كل مكان.
[وكان يخطب إلى جذع، فلما اتخذ المنبر وقام عليه حن الجذع حنين العشار، حتى جاء إليه والتزمه، وكان يئن كما يئن الصبي الذي يُسَكَّت، ثم سكن.
ونبع الماء من بين أصابعه غير مرة].
هذه اختلف العلماء في معنى نبع الماء من بين أصابعه عليه الصلاة والسلام على قولين: القول الأول: أن يكون الماء نبع فعلاً من بين أصابعه، أي: خرج من بين أصابعه.
القول الثاني: أن يكون المعنى أنه ببركته عليه الصلاة والسلام، ولما وضع أصابعه تكاثر الماء، والمعنى: أنه صلى الله عليه وسلم لما وضع أصابعه في الماء تكاثر الماء لبركته عليه الصلاة والسلام، ولم يكن هناك نبع حقيقي من أصابعه.
والقول الأول هو الأظهر، وعليه الأكثرون من العلماء، ولا مانع يمنعه.
[وسبح الحصى في كفه، ثم وضعه في كف أبي بكر ثم عمر ثم عثمان فسبح، وكانوا يسمعون تسبيح الطعام عنده وهو يؤكل.
وسلم عليه الحجر والشجر ليالي بعث.
وكلمته الذراع المسمومة، ومات الذي أكل معه من الشاة المسمومة، وعاش هو بعده أربع سنين].
الذي مات معه هو بشر بن البراء رضي الله عنه.
[وأصيبت رجل عبد الله بن عتيك الأنصاري فمسحها فبرأت من حينها، وأخبر أنه يقتل أبي بن خلف الجمحي يوم أحد فخدشه خدشاً يسيراً فمات.
وقال سعد بن معاذ لأخيه لـ أبي بن خلف: سمعت محمداً يزعم أنه قاتلك، فقتل يوم بدر كافراً.
وأخبر يوم بدر بمصارع المشركين فقال: (هذا مصرع فلان غداً إن شاء الله، وهذا مصرع فلان غداً إن شاء الله) فلم يعدو واحد منهم مصرعه الذي سماه.
وأخبر أن طوائف من أمته يغزون البحر، وأن أم حرام بنت ملحان منهم، فكان كما قال.
وقال لـ عثمان: إنه سيصيبه بلوى؛ فقتل عثمان.
وقال للحسن بن علي: (إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المؤمنين عظيمتين) فكان كذلك.
وأخبر بمقتل الأسود العنسي الكذاب ليلة قتله وبمن قتله، وهو بصنعاء اليمن.
وبمثل ذلك في قتل كسرى.
وأخبر عن الشيماء بنت بقيلة الأزدية أنها رفعت له في خمار أسود على بغلة شهباء، فأخذت في زمن أبي بكر الصديق في جيش خالد بن الوليد بهذه الصفة.
وقال لـ ثابت بن قيس بن شماس: (تعيش حميداً وتقتل شهيداً) فعاش حميداً، وقتل يوم اليمامة شهيدًا.
وقال لرجل ممن يدعي الإسلام وهو معه في القتال: (إنه من أهل النار) فصدق الله قوله بأنه نحر نفسه].
الغيب الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: غيب يتعلق بالأمم والقرون الغابرة، ومثاله: قصة يوسف وإخوته، أصحاب الكهف، قوم نوح، قوم عاد، هذا كله إخبار عن غيب سبق.
الثاني: إخباره عن غيب وقع في حياته قبل أن يموت، مثل إخباره بالذي قتل نفسه، وإخباره بـ الأسود العنسي، ومقتل قريش يوم بدر، ومقتل الأسود العنسي، هذا كله حصل في حياته صلى الله عليه وسلم.
الثالث: إخباره بغيب وقع بعد وفاته صلوات الله وسلامه عليه، مثل قوله: (إن ابني هذا سيد)، وإخباره سراقة بن مالك أنه يلبس سواري كسرى، وأشراط الساعة ستقع بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.
[ودعا لـ عمر بن الخطاب فأصبح عمر فأسلم.
ودعا لـ علي بن أبي طالب أن يذهب الله عنه الحر والبرد فكان لا يجد حراً ولا برداً.
ودعا لـ عبد الله بن عباس أن يفقهه الله في الدين ويعلمه التأويل، فكان يُسمى الحبر والبحر لكثرة علمه.
ودعا لـ أنس بن مالك بطول العمر، وكثرة المال والولد، وأن يبارك الله له فيه، فولد له مائة وعشرون ذكراً لصلبه، وكان نخله يحمل في السنة مرتين، وعاش مائة وعشرين سنة أو نحوها.
وكان عتيبة بن أبي لهب قد شق قميصه وآذاه، فدعا عليه أن يسلط الله عليه كلباً من كلابه، فقتله الأسد بالزرقاء من أرض الشام.
وشكي إليه قحوط المطر وهو على المنبر، فدعا الله عز وجل وما في السماء قزعة فثار سحاب أمثال الجبال، فمطروا إلى الجمعة الأخرى حتى شكي إليه كثرة المطر فدعا الله عز وجل فأقلعت وخرجوا يمشون في الشمس.
وأطعم أهل الخندق - وهم ألف - من صاع شعير أو دونه وبهيمة، فشبعوا وانصرفوا والطعام أكثر ما كان.
وأطعم أهل الخندق أيضاً من تمر يسير أتت به ابنة بشير بن سعد إلى أبيها وخالها عبد الله بن رواحة.
وأمر عمر بن الخطاب أن يزود أربعمائة راكب من تمر كالفصيل الرابض، فزودهم وبقي كأنه لم ينقص تمرة واحدة.
وشهد الذئب بنبوته].
شهادة الذئب بنبوته رواها الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[ومر في سفره ببعير يستقي عليه فلما رآه جرجر ووضع جرانه فقال: (إنه شكا كثرة العمل وقلة العلف).
ودخل حائطًا فيه بعير] الحائط أي: البستان.
[فلما رآه حنه وذرفت عيناه، فقال لصاحبه: (إنه شكا إلي أنك تجيعه وتؤدبه).
ودخل حائطًا آخر فيه فحلان من الإبل وقد عجز صاحبهما عن أخذهما، فلما رآه أحدهما جاءه حتى برك بين يديه فخطمه ودفعه إلى صاحبه، فلما رآه الآخر فعل مثل ذلك].
هذه كلها أخبار تدل على ما سخره الله جل وعلا له صلوات الله وسلامه عليه.
[وخرج على مائة من قريش وهم ينتظرونه فوضع التراب على رءوسهم ومضى ولم يروه.
وتبعه سراقة بن مالك بن جعشم يريد قتله أو أسره، فلما قرب منه دعا عليه، فساخت يدا فرسه في الأرض، فناداه بالأمان، وسأله أن يدعو له فدعا له فنجاه الله.
وله صلى الله عليه وسلم معجزات باهرة، ودلالات ظاهرة، وأخلاق طاهرة، واختصرنا منها على هذا تحقيقاً].
وفي ختام هذا اللقاء أشهد الله على حبكم، وأوصيكم ونفسي بتقوى الله تبارك وتعالى، وسلامة الصدر لجميع المؤمنين، والسعي بالعمل بما نعلم عل الله جل وعلا أن يبلغنا أعلى المنازل في الدنيا والآخرة.
هذا والله تعالى أعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.