أهمية الدعوة إلى الله بالحكمة

الأمر المهم في القضية كلها: حاول أن تربط بين هذا الذي سمعته وبين واقع المسلمين اليوم، والأحداث هي الأحداث، وإنما يختلف الناس فقط.

أولئك الزعماء تعاملوا مع الخطاب النبوي تعاملاً متبايناً متفاوتاً، فلم يتعاملوا جميعاً تعاملاً واحداً، منهم من قبله وجعله بين عينيه وأسلم، ومنهم من أسلم من غير تقبيل، ومنهم جبار عنيد مزقه، ومنهم من حاول أن يسوس الناس الذين عنده ليعلم هل يوافقونه أو لا يوافقونه، فلما غلب على ظنه أنهم لا يوافقونه خاف على ملكه، ومنهم من لم يقبل الإسلام لكنه تأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم وبعث له بهدية، ومنهم أقوام ليست لهم قوة آنذاك كجملة اليمن فبعث إليهم أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل، وقد توفي النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذ في اليمن، فـ معاذ لم يشهد وفاة النبي صلى لله عليه وسلم في المدينة.

والآن العالم الإسلامي الذي نعيشه نظرة غير المسلمين من حكومات وشعوب إلى المسلمين هي نفسها تماماً نظرة الأوائل في ذلك الزمان، فلا يعقل أن يكون جميع زعماء العالم وشعوب العالم نظرتها إلى الإسلام اليوم نظرة واحدة، فهناك من يحارب، وهناك من يستحيي، وهناك من يود أن يدخل فيه لكنه غير قادر، وهناك من يدخل في الدين، فيتفاوت الناس.

فالمسلم العاقل لا يستعدي عليه الناس، ويتعامل مع من حوله بذكاء حتى يحقق مصالحه، لا يهدم الأمر على قومه وعلى نفسه وعلى عشيرته فيضيع الأمر كله أو يتخبط الناس فيه.

كان النبي صلى الله عليه وسلم ينتهز فرصة من حوله فيبعث ذلك الخطاب الذي يسترق به الناس، والله جل وعلا بعث موسى وهارون إلى أعظم الجبابرة في عصره وقال: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44].

فالمسلمون أعظم ما يقتبسونه من السنة أن يعقلوا كيف كان النبي عليه الصلاة والسلام حريصاً على أن يدعو الناس.

النبي عليه الصلاة والسلام ذكر الأنبياء، ثم قال: (وإني لأرجو الله أن أكون أكثرهم تابعاً) فأعظم رغبة له عليه الصلاة والسلام أن يكون أكثر الأنبياء استجابة، يعني: أكثر الأنبياء استجابة.

وهذا لا يتحقق إلا بالدعوة.

فالعاقل الذي يريد أن يحقق الرغبة النبوية يسهم في الدعوة إلى الله بالحكمة لا بالتنفير من الدين، وقد قلنا: إن النبي أخر مسألة دعوة الملوك حتى يقيم الإسلام في المسلمين، وأنت لن تقيم الإسلام في غيرك حتى تقيمه في نفسك.

أما قضية التعامل بالمثل فهذه قضية خاطئة، أنت قدم الإسلام كما هو الإسلام ولا تقدم الإسلام كما يريد الأعداء أن يروه، قدم الإسلام كما قدمه الله جل وعلا لنا، مثلاً: عندنا في المدينة للأسف تسكن طائفة معينة من غير أهل السنة، وكنت قديماً أعمل في الإشراف التربوي، مشرفاً على المدارس، فيأتيك معلم يسبهم ليل نهار ويفعل أموراً لا تليق، يقول: والله يا فلان -يخاطبني- ما استجابوا، ما آمنوا، ما تركوا البدعة.

من الذي تقابله ويمد يده ليسلم عليك فتسحب يده وتبصق في وجهه وترميه، ولا تهنئه بشيء ولا تعزيه إذا مات أحد ثم تريده أن يدخل في هذا المبدأ الذي تدعو إليه؟! لا يوجد عاقل يتبعك وأنت على هذه الحال، لكن قدم الإسلام كما جاء به الله جل وعلا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فيدخل الناس في دين الله أفواجاً.

أما أنا أمد يدي لأصافحك وأنت تسحبها، وتقابلني بالشتم، وأرزق المولود ولا تهنئني، ويموت لي ميت ولا تعزيني ثم تقول لي: ادخل في السنة التي أنا أتبعها، أنت لن تقدم السنة كما قدمها نبينا صلى الله عليه وسلم.

وهذا مرض في القلب.

النبي عليه الصلاة والسلام بعث علياً في حربه مع اليهود، واليهود في حصونهم يحاربونه وغدروا به وأعطوه شاة مسمومة، والله لعنهم في القرآن، ومع هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ علي: (فادعهم إلى لا إله إلا الله، فلأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) ولم يقل له: لو قتلت يهودياً تدخل الجنة، قال له: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم).

فالدعوة إلى الله تبارك وتعالى مقدمة على كل شيء، والإنسان الذي يتبع هدي محمد صلى الله عليه وسلم أول أمر ينزع الهوى الذي في قلبه والرغبات الشخصية ويرميها وراء ظهره، ثم يجعل نهج محمد صلى الله عليه وسلم بين يديه، هذا هو المحك الحقيقي في اتباع السنة، أما أن تأتي الإنسان وتسأله: أنت مسلم أو كافر؟ فإن قال: أنا كافر، تقتله وتمضي! هذا لا يمكن أن يأتي به محمد صلى الله عليه وسلم عن ربه، قال الله عنه: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].

انصرف صلى الله عليه وسلم من بدر وهو منتصر فقال بعض الصحابة من الأنصار: إن وجدنا إلا عجائز صلعاً، يقصد كفار قريش.

فقال صلى الله عليه وسلم: (على رسلك يا ابن أخي! أولئك الملأ لو أمروك لأجبتهم) أي: أنهم أشراف الناس، فلم ينقص قدرهم صلى الله عليه وسلم، فكان يدعو إلى دين الله جل وعلا.

حارب النبي عليه الصلاة والسلام من حال بينه وبين أن يدعو إلى الله، وهذا هدي الأنبياء من قبل، موسى يقول: {وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ} [الدخان:21] أي: لا تمنعوني أن أدعو الله، فما أحوج المسلمين اليوم إلى من يفقه الدعوة النبوية التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم عن ربه.

فهؤلاء الرسل يقطعون الفيافي يبلغون رسالات الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وهذا لا يعني أن يترك الجهاد، فالجهاد ذروة سنام الإسلام، لكن كما قلت: حارب الرسول من وقف بينه وبين أن يدعو إلى الله جل وعلا، هؤلاء هم القوم الذين حاربهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك كان الصحابة كـ أبي بكر وغيره يتركون الرهبان الذين في الكنائس وفي الدير، ويمنع الناس أن يتعرضوا لهم، يقول: لا تتعرض لهم؛ لأن هؤلاء مشغولون بما هم فيه، لا يمنعونك من أن تدعو، ادع إلى الله كما شئت فهم لا يمنعونك، يتركونك تدعو، فلم يتعرض لهم المسلمون.

والمقصود من هذا كله: أن الوضع المعاصر يفرض على من يعقل من علماء المسلمين أن يقول الحق، ولا يلتمس في كلامه رغبة الناس، وهذا من أعظم أخطائنا في الصحوة، إذا جئت تتكلم لا ينبغي أن تقول ما يريده الناس، ينبغي أن تقول ما هو مراد الله؛ لأن العلماء هم الذين يقودون العامة، وليس العامة هم الذين يسيرون أقوال العلماء، هذه الكلمة يقولها النقاد السينمائيون: ما يريده الجمهور، هذا عند شباك السينما، أما هنا في شرع الله جل وعلا فليس الأمر متروكاً لي ولا لك، هذا نور أتى به محمد صلى الله عليه وسلم من ربه فنبلغه كما بلغه نبينا صلى الله عليه وسلم، بلغه بالسنان، بالقتل لمن حرمه أن يبلغ دين ربه، وبلغه باللسان والحكمة والموعظة الحسنة مع من لم يتعرض لدعوته لربه جل وعلا، حتى قال العلماء: إن النبي عليه الصلاة والسلام أقر من أسلم من الملوك على ملكهم، ولم يبعث الصحابة ليقولوا الملك حتى لا يفتنوا، ترك الملوك والرؤساء الذين أسلموا على ملكهم؛ لأن المقصود أن يدخل الناس في دين الله أفواجاً، وليس المقصود أن يأتي أحد الصحابة فيرث تلك الأرض ويصبح زعيماً على تلك الطائفة، المقصود أن يدخل الناس في دين الله أفواجاً، وأنت ستكون عظيماً إذا كنت سبباً في دخول الناس إلى دين ربك جل وعلا.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015