أما وسيلته إلى ذلك فقد كان القرآن وحده؛ باعتباره النبع الذي يسقون منه ويتكيفون به ويتخرجون عليه، مع وجود المؤثرات من حضارة الرومان وثقافتها وكتبها وقانونها الذي مازال في أوربا، ومن حضارة الإغريق ومنطقهم وفلسفتهم وفنهم الذي مازال نبع الغرب، ومن حضارة الفرس وفنها وشعرها وأساطيرها وعقائدها ونظم حكمها وحضارات أخرى.
وكان للرسول صلى الله عليه وسلم في اتخاذ ذلك المصدر وحده منهج مقصود وتصميم مرسوم؛ كان نتاجه ذلك الجيل الفريد الذي ذكرنا أوصافه1.
والذي رباه الرسول صلى الله عليه وسلم تربية دقيقة عميقة، ولم يزل القرآن يسمو بنفوسهم ويذكي جمرة قلوبهم، ولم تزل مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم تزيدهم رسوخا في الدين، وعزوفا عن الشهوات، وتفانيا في سبيل مرضاة الله، وحنينا إلى الجنة، وحرصا على العلم، وفقها في الدين، ومحاسبة للنفس؛ يطيعون الرسول في المنشط والمكره، وينفرون في سبيل الله خفافا وثقالا؛ قد خرجوا مع الرسول للقتال سبعا وعشرين مرة في عشر سنين، وخرجوا بأمره لقتال العدو أكثر من مائة مرة؛ فهان عليهم التخلي عن الدنيا، وهانت عليهم رزيئة أولادهم ونسائهم في نفوسهم، ونزلت الآيات بكثير مما لم يألفوه ولم يتعوّدوه، وبكل ما يشق على النفس إتيانه في المال والنفس والولد والعشيرة؛ فتنشطوا وخفوا لامتثال أمرها) 2.
وهذا الجيل الذي رباه الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى إذا تيقن من ثمرة تربيته ونجاح غرسه لحق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى وقد أدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الظلمة، وأضاء الأرض بنور الله وهديه.
وقد اقتضى الفتح الإسلامي وامتداده - زيادة على طبيعة هذا الدين الجديد - أن يتعلم المسلمون القراءة والكتابة، وأن تتسع حركة محو الأمية بينهم.
وقد ساعدت عدة عوامل على انتشار القراءة والكتابة وازدهار الحركة العلمية:
أهمها اختلاط العرب بغيرهم مما جعل التعليم أمرا لازما لمواجهة الحياة الجديدة والحضارة الموعودة.
ومنها أن الإسلام قد جاء بدعوة تدعو إلى إعمال العقل والتفكير في ملكوت الله وخلق الإنسان؛ ليصل بذلك إلى الإيمان بالله وقدرته وإبداعه ووحدانيته، وتدرج في هذا الخطاب بما يناسب عقلية العرب وتصوراتهم والمحسات المتعلقة بحياتهم؛ {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} 3، {فَلْيَنْظُرِ الأِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً ثُمَّ