مصعب أضرب عن ذكره أياما حتى تحدّثت به إماء مكة في الطريق، ثم صعد المنبر فجلس عليه مليا لا يتكلم، فنظرت إليه والكآبة على وجهه وجبينه يرشح عرقا، فقلت لآخر إلى جنبي: ماله لا يتكلم؟ أتراه يهاب المنطق؟ فو الله إنه لخطيب فما تراه يهاب؟ قال: أراه يريد أن يذكر قتل مصعب سيد العرب، فهو يفظع [1] بذلك، وغير ملوم هو. فقال: الحمد لله الذي له الخلق والأمر، مالك الدنيا والآخرة، يعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء، إلا أنه والله لا يذلّ من كان الحقّ معه وان كان مفردا ضعيفا، ولا يعزّ من كان الباطل معه وإن كان في العدد والكثرة. ثم قال: إنه أتانا الخبر من العراق بلد الغدر والشقاق، فساءنا وسرّنا، أتانا أنّ مصعبا قتل، رحمة الله عليه ومغفرته، فأما الذي حزننا [2] من ذلك فان لفراق الحميم لذعة [3] يجدها حميمه عند المصيبة، ثم يرعوي من بعد ذوو الرأي والدين إلى جميل الصبر، وأما الذي سرّنا منه فانا قد علمنا أنّ قتله شهادة، وأنّ الله عز وجل جاعل لنا وله خيرة في ذلك، إن شاء الله. إنّ أهل العراق أسلموه وباعوه بأقلّ ثمن كانوا يأخذونه منه وأخسره، أسلموه إسلام الجمل المخطم فقتل [4] ، ولئن قتل فلقد قتل أبوه وعمه وأخوه وكانوا الخيار [5] الصالحين، إنّا والله ما نموت حتف أنوفنا، ما نموت إلا قتلا قصعا قصعا بين قصد الرماح وتحت ظلال السيوف، ليس كما تموت بنو مروان، والله ما قتل رجل منهم في جاهلية ولا إسلام. وإنما الدنيا عارية من الملك القهار الذي لا يزول سلطانه ولا ملكه [6] ، فإن تقبل الدنيا عليّ لا آخذها أخذ البطر