سبقك، ولا يجمل تقديمك على من سواك. فقلت: جعلت فداك! إلى متى تفرغين ممّن سبقني؟ قالت: هو ذاك، الحقّ يسعك ويسعهم. فبينا نحن في ذاك إذ أقبل عبد الله بن جعفر- فإنّه لأوّل يوم رأيته وآخره وكنت صغيرا كيّسا، وكانت جميلة شديدة الفرح بي- فقامت وقام الناس فلقيته وقبّلت يديه، وجلس في صدر المجلس على كرسيّ لها، وتحوّق أصحابه حوله، وأشارت إلى من عندها بالانصراف فتفرّق الناس، وغمزتني ألا أبرح فأقمت، وقالت: يا سيّدي وسيّد آبائي ومواليّ، كيف نشطت أن تنقل قدميك إلى أمتك؟ قال: يا جميلة، قد علمت ما آليت أن لا تغنّي أحدا إلا في منزلك، وأحببت الاستماع، وكان ذلك طريقا مادّا فسيحا. قالت: جعلت فداءك! فأنا أصير إليك وأكفّر، فقال: لا أكلّفك ذلك، وبلغني أنك تغنّين بيتين لامرىء القيس تجيدين الغناء فيهما، وكان الله عزّ وجلّ أنقذ بهما جماعة من المسلمين من الموت. قالت: يا سيّدي نعم، فاندفعت فغنّت بعودها، فما سمعت منها قبل ذلك اليوم ولا بعده إلى أن ماتت مثل ذلك الصوت، ولا مثل ذلك الغناء، فسبّح عبد الله بن جعفر والقوم معه، وهما: [من الطويل]

ولمّا رأت أنّ الشريعة همّها ... وأنّ البياض من فرائصها دامي

تيمّمت العين التي عند ضارج ... يفيء عليها الظلّ عرمضها طامي

فلما فرغت جميلة قالت: يا سيّدي أزيدك؟ قال: حسبي. فقال بعض من كان معه: أي جعلت فداك! وكيف أنقذ الله بهذين البيتين جماعة من المسلمين؟

قال: نعم، أقبل قوم من أهل اليمن يريدون النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فضلّوا الطريق ووقعوا على غيرها، ومكثوا مليّا لا يقدرون على الماء، وجعل الرجل منهم يستذري بفيء السمر والطّلح، فأيسوا من الحياة، إذا أقبل رجل على بعير، فأنشد بعض القوم هذين البيتين، قال الراكب: من يقول هذا؟ قال: امرؤ القيس، قال: والله ما كذب، هذا ضارج عندكم، وأشار لهم إليه. فحبوا على الرّكب، فإذا ماء

طور بواسطة نورين ميديا © 2015