وضرب وهو لا يدري، والملوك لا تصلح العيدان في مجالسها، فلم يزل يضرب بذلك العود إلى أن فرغ، ثم قام على رجليه فأخبر الملك بالقصّة فامتحن العود فعرف ما فيه، فقال له: «زه وزهان زه» ووصله بالصلة التي كان يصل بها من يخاطبه بهذه المخاطبة، فلما تواطأت الروايات بذلك، أخذت به نفسي ورضتها عليه وقلت: لا ينبغي أن يكون الفلهيذ أقوى على هذا منّي، فما زلت أستنبطه بضع عشرة سنة حتى لم يبق في الأوتار موضع على طبقة من الطباق إلا وأنا أعرف نغمته كيف هي والمواضع التي تخرج النغمة كلّها من أعاليها إلى أسافلها، وكل شيء منها يجانس شيئا غيره، كما أعرف ذلك في مواضع الدّساتين، وهذا شيء لا يفي به الجواري. فقال له الواثق: لعمري لقد صدقت، ولئن متّ لتموتنّ هذه الصناعة معك. وأمر له بثلاثين ألف درهم.
«44» - قال أحمد بن حمدون: سمعت الواثق يقول: ما غنّاني إسحاق قط إلا ظننت أنّه قد زيد لي في ملكي، ولا سمعته يغنّي غناء ابن سريج قط [إلا ظننت أنّه] قد نشر؛ وإنّه ليحضرني غيره إذا لم يكن حاضرا فيتقدّمه عندي وفي نفسي بطيب الصوت، حتى إذا اجتمعا عندي رأيت إسحاق يعلو، ورأيت من تقدّم ينقص، وإنّ إسحاق لنعمة من نعم الملك التي لم يحظ أحد بمثلها، ولو أنّ العمر والشباب والنّشاط ممّا يشترى لا شتريتهنّ له بشطر ملكي.
«45» - قال دحمان الأشقر: كتب عامل لعبد الملك بن مروان بمكّة إليه أنّ رجلا أسود يقال له سعيد بن مسجح قد أفسد فتيان قريش وأنفقوا عليه أموالهم، فكتب إليه: أن اقبض ماله وسيّره إليّ. فتوجّه ابن مسجح إلى الشام، فصحبه رجل له جوار مغنّيات في طريقه، فقال له: أين تريد؟ فأخبره خبره وقال له: أريد الشام، قال له: فتكون معي؟ قال: نعم. فصحبه ثم بلغا دمشق