مع احتمال هذه العلل فيه، ومع توافيها إليه، ولم تقض له بأقصى النهاية، مع ترادف هذه الأسباب، وتكافل هذه الدلائل، وتعاون هذه البرهانات، فكلّ بيّنة إذن زور، وكل دلالة فاسدة. وقد قال الأول: إنّ دلائل الأمور أشدّ تثبيتا من شهادات الرجال، إلّا أن يكون في الخبر دليل ومع الشهادة برهان، لأن الدليل لا يكذب ولا ينافق، ولا يزيد ولا يبدّل، وشهادة الإنسان لا تمنع من ذلك، وليس معها أمان من فساد ما كان الإمكان قائما.

فإن جهلت- أعزّك الله- علّة غضبك، فتمثّل جهل من لا علّة له؛ وإن عجزت عن احتمال عقابك، فتمثّل عجز ما لا يطاق حمله، ولا عار على جازع إلّا فيما يمكن في مثله الصبر، ولا لوم على جاهل فيما لا ينجح في مثله الفكر.

وليس هذا أوّل شرك نصبته، ولا أوّل كيد أرغته، وما هي بأوّل دنيّة غطّيتها وسترتها، وحيلة أكمنتها «1» ورمقتها «2» . وقد كانت التقيّة أحزم، والاقتضاء أسلم؛ بل كان العفو أرحم، والتغافل أكرم. ولا خير في عقوبة تشمت العدوّ القديم، ويتنادى بها العدوّ الحادث. والأناة أبلغ من الحزم، وأبعد من الذمّ، وأحمد مغبّة، وأبعد من مخوف العجلة، وقد قال الأول: عليك بالأناة فإنّك على ايقاع ما أنت موقعه أقدر منك على ردّ ما أوقعته، وقد أخطأ من قال «3» : [من البسيط]

قد يدرك المتأنّي بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزّلل

بل لو كان قال: المتأنّي بدرك حاجاته أحقّ، والمستعجل بفوت حاجاته أخلق، كان قد وفّى المعنى حقّه، وأعطى اللفظ حظّه، وإن كان القول الأوّل موزونا والثاني منثورا. وليس يصارع الغضب أيام شبابه وغرب نابه شيء إلّا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015