أعلامه بإرفاد حامليه، وصنع جميل يتخذه عند آمليه، ومكرمة يصيب بها مواقعها، وأحدوثة جميلة يكتسي وشائعها، وذكر ملأ الآفاق نشره طيبا، وأصبح كلّ لسان بمدحه خطيبا. وهل ما يتداوله الرّواة، وتتناقله في الكتب الأفواه، من أخبار شيخ البرامك يحيى بن خالد، ومآثر كلّ كريم من قديم الزمان ماجد، والنفوس تنكر بعضه استعظاما، وتعتده سمرا أو مناما، إلّا دون ما نراه عيانا، ونستوضح في كلّ ساعة دليلا عليه وبرهانا. لعلّ وجوها كانت في هذا المقام حاضره، وأعينا رامقة إليّ ناظره، فزويت عني تلك غيظا وامتقعت، وأغريت هذه بمسارقة النظر المريب نحوي وأولعت، وأنا خالع بالمضيّ في شوطي للعذار، غير ملتفت فيما يكمد الحاسدين إلى الاعتذار. ورأيت في تصفّح هذه المفاتحة متأمّلا، وقراءتها متلقّيا بحسن القبول متقبّلا، واستئناف المواصلة بكتبه الكريمة التي تمهّد مباني الوداد، وتعمر سبل المحافظة التي يعدّها أمثاله من أولي البصائر أجمل مكتسب، وأعلى في مجاري أحواله- أجراها الله على إيثاره، وأمدّها بجنود السعادة في ليله ونهاره- ما اشتبهت أرواح الإنس بمعرفته، ولشكر صنع الله عنده في مقابلته أعلى.
**** وما وضع صدور الأدباء رسائل أسماء بغير أجسام، وألفاظا بغير معان، إلا ليدلوا على موضعهم من البراعة، وينبّهوا على محلّهم من البلاغة. فمنهم الجاحظ وكان مسهبا يستقي من بحر لا ينزح ماؤه، ويمتري أثباج درّ لا تقلع سماؤه، ويهدر هدير الفنيق بلا نهاية، ويؤمّ نهجا لا مقصد له ولا غاية، والمعرّي يحوم ولا يعوم، ويلوب ولا يرد، ويلغز ولا يبرّز، كأنما عنده مضمر يخاف من كشفه، وخلل إن أظهره آذن بحتفه. وله رسائل كثيرة لكنها موشيّة بوهمات الإلحاد، ومبنيّة على اختلاطه في الاعتقاد، كأنّه شاكّ مريب أو هازىء عابث، وقد استكثر من روايتها فإن تركت معجمة أهملت، وإن فسّرت خرجت عن معنى الرسائل، وصارت بكتب اللغة أشبه، مع أنّ الحرج يمنع من التعرض لتدوينها، وقد اقتصرت منها على