يا أبا عليّ، جعلني «1» الله فداك، عشنا بعدك ما شينا، وشبعنا وروينا، وأرخت السماء عزاليها، واثعنجرت بما فيها، فغمر الماء الزّبى، ونقع من الصّدى، ولبست الأرض قناعها الأخضر، ونضت شعارها الأغبر، وعاضنا الغضّ العميم من المصوّح الهشيم، وجزأنا الرّطب المخضوم من اليابس المقضوم، فعاشت العاملة والماشية، وهاجت الآبية الغاشية، وارتجعت روايا المطايا، ما أخذت منها المخارم والثنايا، مستردّة بمشافرها ما جذب البرى بمناخرها، سائمة بين الكثيف الكثّ، من الطّبّاق والشث، وسارحة في المناخ الفسيح، من القيصوم والشّيح، فنحن في سوابغ من النّعم، نرتع فيها رتعة النّعم، قد عزّ عندنا أن يستضاف [لدينا] ضيف كريم، واستغنى أن يرتضع لئيم، وأترعت الجفان وذما، واستحال القرم بشما وحالت البطنة دون الفطنة، ومنع الطعام دون تراجع الكلام، فلو أنّ قسّا بيننا لخرس، أو دغفلا لأبلس، وكأنّ الشاعر إنما أراد أحدنا بقوله: [من الطويل]
أتانا ولم يعدله سحبان وائل ... بيانا وعلما بالّذي هو قائل
فما زال عنه اللّقم حتّى كأنّه ... من العيّ لما أن تكلّم باقل
فهزيلنا بحمد الله سامن، وضئيلنا بإذن الله بادن، وأخلافنا دارّة، وغلّاتنا مترعة، ورياضنا مخصبة، وعرصاتنا معشبة، ومشاربنا متأقة، وأنهارنا متدفّقة، وأشجارنا مورقة مرجحنة، وأطيارنا مغرّدة، وريحنا رخاء، وعيشنا سرّاء، وزماننا ربيع كلّه، وليلنا سحر من أوّله، ونهارنا ضحى إلى آخره. وقد أخرجنا الله من شدّة إلى بلهنية، ومن ضغطة إلى رفاهية، ومن شقوة إلى سعادة، نأكل الطيّب المستمرأ بعد الخبيث «2» المستوبأ، ونشرب البارد العذب، بعد الآجن الملح. وأدركتنا هزّة الرعاية، وأطّت بنا عند سلاطيننا- أطال الله بقاءهم-