حضرته، فعزم على ختان ولده، فاحتفل له الناس على طبقاتهم، وهاداه أعيان الدولة ووجوه الكتّاب والرؤساء على اختلاف منازلهم. وكان له صديق قد اختّلت حاله وأضاقت يده عما يريده لذلك مما دخل فيه غيره، فعمد إلى كيسين كبيرين نظيفين، فجعل في أحدهما ملحا وفي الأخر أشنانا مكفّرا، وكتب معهما رعة نسختها: لو تمّت الارادة لأسعفت بالعادة، ولو ساعدت المكنة على بلوغ الهمة لأتعبت السابقين إلى برّك، وتقدمت المجتهدين في كرامتك. لكن قعدت القدرة عن البغية، وقصّرت الجدة عن مباراة أهل النعمة، وخفت أن تطوى صحائف البر، وليس لي فيها ذكر، فأنفذت المبتدأ بيمنه وبركته، والمختتم بطيبه ونظافته، صابرا على ألم التقصير، ومتجرّعا غصص الاقتصار على اليسير. فأما ما لم أجد إليه السبيل في قضاء حقك فالقائم فيه بعذري قول الله عزّ وجلّ: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ
(التوبة: 91) .
ثم حضر يحيى بن خالد الوليمة، وعرض عليه وكيله جميع ما حمل إليه من الجهات حتى أراه الملح والأشنان والرقعة، فاستظرف الهدية، وأعجب بالرقعة، وأمر الغلام أن يملأ الكيسين عينا فكان أربعة آلاف دينار، وأعادهما إليه.
25- كتب أبو الفرج الببغاء إلى بعض إخوانه يستهديه دواة وآلتها: إذا كان التفضل يا سيدي- أطال الله بقاءك- للكريم صفة، وللمنعم خليقة، فإن عوضه في ما يأتيه، معين على شكر مننه وأياديه، وهذا وصف لا يتجاوزك ولا يتعداك، ولا يأنس وحشيّه على الحقيقة بسواك. ولذلك صار أنفقنا عليك، وأهدانا لسبيل التقرب إليك، من استنزلك عن أنفس أملاكك، وابتزّك أشرف ذخائرك، بتسحّب الثقة وتسلّط التاميل. ولما كانت الدويّ- ايدك الله- للكتابة عتادا، وللخواطر زنادا، ووجدت أكثرها بظاهر اللقب مستهلكا، وبرقّ الدعاوى مستملكا، عدلت إلى الأكفاء في خطبتها، وعذت بأفخر محتد لنسبتها، فتنجّزت سؤددك- أيدك الله- منها آلة حضر الكمال حدودها،