ومما يشاهد في الاعتياد أنه إذا حضر طعام في إناء يثق العاقل بكونه لم يصادف نجاسة ولا قذرا، ولكنه على شكل الأواني [المعدة] لذلك، فينفر عنه ويتقذر الأكل. وكذلك يسمع الثناء الحسن إن كان قاطعا بأنه [معرى] عن تلك المعاني، فيجد لذلك انشرحا وميلا. وذلك عمل الوهم.
فكذلك لما كانت هذه الأمور في أغلب الأحوال ترتبط بها [الأغراض] نفعا وضرا، إلا في نادر الأحوال، لم تنتبه النفس لتلك الأحوال النادرة، بل لو التفتت إليها، لم تنفر لمقتضى العلم فيها، [واستولى] الوهم عليها. والأمثلة في ذلك كثيرة. بل الإنسان إذا جالس من عشقه في مكان، فإذا انتهى إليه، أحس من نفسه تفرقة بين ذلك المكان وغيره. وذكر الشعر والأوطان والآثار والمنازل، كله من هذا القبيل.
فنرجع إلى الكلام على المثال فنقول: إنما يترجح الإنقاذ على الإهلاك، إما من متشرع [يرجو] الثواب، وإما ممن يقصد أن يعرف بالإنعام والإفضال، وإما أن يتألم برؤية العذاب بغيره، فيزيل الألم عن نفسه، وإما أن يقدر نفسه في تلك البلية، ويقدر غيره قادرا على إنقاذه، وهو معرض عنه، فيستقبح ذلك منه، ثم يعود ويقدر ذلك الاستقباح عائدا عليه، فيزيله عن نفسه. وهذا طبع بني آدم، وهو طبع يتعذر الانكفاف عنه. فإن قدر فقدان هذا كله، فقد وجد الإنقاذ مقرونا بالثناء، فيحسب أنه يقترن به على الإطلاق.