وَأَهَمُّهُ مَا كَانَ عَنْ مَحَبَّةٍ لِأَنَّهُ يُرْضِي نَفْسَ فَاعِلِهِ قَالَ:
أَهَابُكِ إِجْلَالًا وَمَا بِكِ قُدْرَةٌ ... عَلَيَّ وَلَكِنْ مِلْءُ عَيْنٍ حَبِيبُهَا
وَهِيَ تَسْتَلْزِمُ الْخَوْفَ مِنْ غَضَبِ الْمَحْبُوبِ قَالَ مَحْمُودٌ الْوَرَّاقُ أَوْ مَنْصُورٌ الْفَقِيهُ:
تَعْصِي الْإِلَهَ وَأَنْتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ ... هَذَا لَعَمْرِي فِي الْقِيَاسِ بَدِيعُ
لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقًا لَأَطَعْتَهُ ... إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ
وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمرَان: 31] فَذَلِكَ يُشْعِرُ بِأَنَّ اتِّبَاعَ الشَّرِيعَةِ يُوجِبُ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَأَنَّ الْمُحِبَّ يَوَدُّ أَنْ يُحِبَّهُ حَبِيبُهُ كَمَا قَالَ الْمُتَنَبِّي:
أَنْتَ الْحَبِيبُ وَلَكِنِّي أَعُوذُ بِهِ ... مِنْ أَنْ أَكُونَ مُحِبًّا غَيْرَ مَحْبُوبِ
وَإِلَى هَذَا النَّوْعِ تَرْجِعُ عِبَادَةُ أَكْثَرِ الْأُمَمِ، وَمِنْهَا الْعِبَادَةُ الْمَشْرُوعَةُ فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى حُبِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ عِبَادَةُ الْمُشْرِكِينَ أَصْنَامَهُمْ قَالَ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 165] . وَمِنَ الْأُمَمِ مَنْ عَبَدَتْ عَنْ خَوْفٍ دُونَ مَحَبَّةٍ وَإِنَّمَا هُوَ لِاتِّقَاءِ شَرٍّ كَمَا عَبَدَتْ بَعْضُ الْأُمَمِ الشَّيَاطِينَ وَعَبَدَتِ
الْمَانَوِيَّةُ مِنَ الْمَجُوسِ الْمَعْبُودِ (أَهْرُمُنْ) وَهُوَ عِنْدَهُمْ رَبُّ الشَّرِّ وَالضُّرِّ وَيَرْمُزُونَ إِلَيْهِ بِعُنْصُرِ الظُّلْمَةِ وَأَنَّهُ تَوَلَّدَ مِنْ خَاطِرِ سُوءٍ خَطَرَ لِلرَّبِّ (يَزْدَانَ) إِلَهِ الْخَيْرِ، قَالَ الْمَعَرِّيُّ:
فَكَّرَ يَزْدَانُ عَلَى غِرَّةٍ ... فَصِيغَ مِنْ تَفْكِيرِهِ أَهْرُمُنْ
وَالْحَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ تَقْدِيمِ الْمَعْمُولِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ حَصْرٌ حَقِيقِيٌّ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُلَقَّنِينَ لِهَذَا الْحَمْدِ لَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ. وَزَعَمَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي «إِيضَاحِ الْمُفَصَّلِ» فِي شَرْحِ دِيبَاجَةِ «الْمُفَصَّلِ» عِنْدَ قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ «اللَّهَ أَحْمَدُ» أَنَّ التَّقْدِيمَ لَا يُفِيدُ إِلَّا الِاهْتِمَامَ دُونَ حَصْرٍ وَأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ تَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ لِلِاهْتِمَامِ دُونَ قَصْرٍ وَأَنَّ تَمَسُّكَهُمْ بِقَوْلِهِ: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ [الزمر: 66] ضَعِيفٌ لِوُرُودِ: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ [الزمر: 2] وَإِبْطَالُ رَأْيِهِ مُقَرَّرٌ فِي كُتُبِ عِلْمِ الْمَعَانِي.
وَأَنَا أَرَى اسْتِدْلَالَهُ بِوُرُودِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاعْبُدِ اللَّهَ لَا يَلِيقُ بِمَقَامِهِ الْعِلْمِيِّ إِذْ لَا يُظَنُّ أَنَّ مَحَامِلَ الْكَلَامِ مُتَمَاثِلَةً فِي كُلِّ مَقَامٍ، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِنَّمَا لَمْ تُفْصَلْ عَنْ جُمْلَةِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ بِطَرِيقَةِ تَعْدَادِ الْجُمَلِ مَقَامِ التَّضَرُّعِ وَنَحْوِهِ مِنْ مَقَامَاتِ التَّعْدَادِ وَالتَّكْرِيرِ كُلًّا أَوْ بَعْضًا لِلْإِشَارَةِ إِلَى خُطُورِ الْفِعْلَيْنِ جَمِيعًا فِي إِرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ بِهَذَا التَّخْصِيصِ، أَيْ نَخُصُّكَُُ