وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ أَهَمِّ الْمَبَاحِثِ الْبَحْثَ عَنْ سِرِّ الْعِبَادَةِ وَتَأْثِيرِهَا وَسِرِّ مَشْرُوعِيَّتِهَا لَنَا وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ هَذَا الْعَالَمَ لِيَكُونَ مَظْهَرًا لِكَمَالِ صِفَاتِهِ تَعَالَى: الْوُجُودُ، وَالْعِلْمُ، وَالْقُدْرَةُ. وَجَعَلَ قَبُولَ الْإِنْسَانِ لِلْكَمَالَاتِ الَّتِي بِمِقْيَاسِهَا يَعْلَمُ نِسْبَةَ مَبْلَغِ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ، وَأَوْدَعَ فِيهِ الرُّوحَ وَالْعَقْلَ اللَّذَيْنِ بِهِمَا يَزْدَادُ التَّدَرُّجُ فِي الْكَمَالِ لِيَكُونَ غَيْرَ قَانِعٍ بِمَا بَلَغَهُ مِنَ الْمَرَاتِبِ فِي أَوْجِ الْكَمَالِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَأَرْشَدَهُ وَهَدَاهُ إِلَى مَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى مَرَامِهِ لِيَحْصُلَ لَهُ بِالِارْتِقَاءِ الْعَاجِلِ رُقِيٌّ آجِلٌ لَا يَضْمَحِلُّ، وَجَعَلَ اسْتِعْدَادَهُ لِقَبُولِ الْخَيْرَاتِ كُلِّهَا عَاجِلِهَا وَآجِلِهَا مُتَوَقِّفًا عَلَى التَّلْقِينِ مِنَ السَّفَرَةِ الْمُوحَى إِلَيْهِمْ بِأُصُولِ الْفَضَائِلِ. وَلَمَّا تَوَقَّفَ ذَلِكَ عَلَى مُرَاقَبَةِ النَّفْسِ فِي نَفَرَاتِهَا وَشَرَدَاتِهَا وَكَانَتْ تِلْكَ الْمُرَاقَبَةُ تَحْتَاجُ إِلَى تَذَكُّرِ الْمُجَازِي بِالْخَيْرِ وَضِدِّهِ، شُرِعَتِ الْعِبَادَةُ لِتَذَكُّرِ ذَلِكَ الْمُجَازِيِّ لِأَنَّ عَدَمَ حُضُورِ ذَاتِهِ وَاحْتِجَابِهِ بِسُبُحَاتِ الْجَلَالِ يُسَرِّبُ نِسْيَانَهُ إِلَى النُّفُوسِ، كَمَا أَنَّهُ جَعَلَ نِظَامَهُ فِي هَذَا الْعَالَمِ مُتَّصِلَ الِارْتِبَاطِ بَيْنَ أَفْرَادِهِ فَأَمَرَهُمْ بِلُزُومِ آدَابِ الْمُعَاشَرَةِ وَالْمُعَامَلَةِ لِئَلَّا يَفْسُدَ النِّظَامُ، وَلِمُرَاقَبَةِ الدَّوَامِ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا شُرِعَتِ الْعِبَادَةُ لِتُذَكِّرَ بِهِ، عَلَى أَنَّ فِي ذَلِكَ التَّذَكُّرِ دَوَامَ الْفِكْرِ فِي الْخَالِقِ وَشُؤُونِهِ وَفِي ذَلِكَ تَخَلُّقٌ بِالْكَمَالَاتِ تَدْرِيجًا فَظَهَرَ أَنَّ الْعِبَادَةَ هِيَ
طَرِيقُ الْكَمَالِ الذَّاتِيِّ وَالِاجْتِمَاعِيِّ مَبْدَأً وَنِهَايَةً، وَبِهِ يَتَّضِحُ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] فَالْعِبَادَةُ عَلَى الْجُمْلَةِ لَا تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا مُحَقِّقَةً لِلْمَقْصِدِ مِنَ الْخَلْقِ، وَلَمَّا كَانَ سِرُّ الْخَلْقِ وَالْغَايَةُ مِنْهُ خَفِيَّةَ الْإِدْرَاكِ عَرَّفَنَا اللَّهُ تَعَالَى إِيَّاهَا بِمَظْهَرِهَا وَمَا يُحَقِّقُهَا جَمْعًا لِعَظِيمِ الْمَعَانِي فِي جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ جُمْلَةُ: إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا التَّقْرِيرِ الَّذِي نَحَوْنَاهُ وَأَقَلُّ مِنْهُ قَوْلُ الشَّيْخِ ابْنِ سِينَا فِي «الْإِشَارَاتِ» : ((لَمَّا لَمْ يَكُنِ الْإِنْسَانُ بِحَيْثُ يَسْتَقِلُّ وَحْدَهُ بِأَمْرِ نَفْسِهِ إِلَّا بِمُشَارَكَةِ آخَرَ مِنْ بَنِي جِنْسِهِ وَبِمُعَاوَضَةٍ وَمُعَارَضَةٍ تَجْرِيَانِ بَيْنَهُمَا يُفْرِغُ كُلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ عَنْ مُهِمٍّ لَوْ تَوَلَّاهُ بِنَفْسِهِ لَازْدَحَمَ عَلَى الْوَاحِدِ كَثِيرٌ وَكَانَ مِمَّا يَتَعَسَّرُ إِنْ أَمْكَنَ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ النَّاسِ مُعَامَلَةٌ وَعَدْلٌ يَحْفَظُهُ شَرْعٌ يَفْرِضُهُ شَارِعٌ مُتَمَيِّزٌ بِاسْتِحْقَاقِ الطَّاعَةِ وَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِلْمُحْسِنِ وَالْمُسِيءِ جَزَاءٌ مِنْ عِنْدِ الْقَدِيرِ الْخَبِيرِ، فَوَجَبَ مَعْرِفَةٌ الْمُجَازِي وَالشَّارِعِ وَأَنْ يكون مَعَ الْمعرفَة سَبَبٍ حَافِظٍ لِلْمَعْرِفَةِ فَفُرِضَتْ عَلَيْهِمُ الْعِبَادَةُ الْمُذَكِّرَةُ لِلْمَعْبُودِ، وَكُرِّرَتْ عَلَيْهِمْ لِيُسْتَحْفَظَ التَّذْكِيرُ بِالتَّكْرِيرِ)) اهـ.
لَا شَكَّ أَنَّ دَاعِيَ الْعِبَادَةِ التَّعْظِيمُ وَالْإِجْلَالُ وَهُوَ إِمَّا عَنْ مَحَبَّةٍ أَوْ عَنْ خَوْفٍ مُجَرَّدٍ،