مشربًا، ثم وفد إلى مدينة صنعاء، وتلقاه أهلها بالإعزاز والإعظام، واستجاز منه جماعة من العلماء الأعيان، منهم: السيد العلامة عبد الله بن محمد الأمير، وله مؤلف خاص في شرح رحلته إلى اليمن، سماه: "السر الموتمن". وهذه الطريقة - أعني: الارتحالَ لطلب علو الإسناد، واكتساب المعالي - كانت سيرة أولي الهمم العلية من السلف والخلف، حتى إن بعضهم كره الإجازة؛ لأنها تكسل عن الرحلة، وما أحسن قولَ أبي الطيب:
يُخَيَّلُ لي أن البلادَ مسامعي ... وأَنِّيَ فيها ما تقولُ العواذلُ
معناه: أنه لا يستقر ببلاد؛ لأن العاذل ما له كلمة مستقرة في أذن المحب، وفي المعنى قول ابن نباتة:
كأنما الأرضُ عني غيرُ راضيةٍ ... فليسَ لي وطنٌ فيها ولا وَطَرُ
ثم عاد إلى المدينة المنورة، وتصدى فيها لنشر علوم الإسناد، وإملاء الحديث، والاجتهاد في هذا الشأن العظيم، توفي - رحمه الله تعالى - في سنة 1186، بنابلس بعد زيارة القدس.
تكرر وفوده إلى مدينة زبيد، وإلى صنعاء اليمن مرارًا عديدة، وهو في كل وفادة يُتلقى بالإكرام والإجلال، ويجتمع إليه في كل يوم وليلة من الخاص والعام ما دام مقيمًا عالَمٌ كثير يقيمون معه الذكر الجهري على طريقةٍ أخذَها عن شيخ الشيوخ في إقليم مصر محمد بن سالم الحفناوي، الآخذ لها عن الإمام مصطفى البكري، الآخذ لها عن علي بن وفا، وهو - كما أفاد ذلك الشيخُ عبدُ الغني النابلسي في "بيان السر الغامض في شرح ديوان ابن الفارض" - أولُ من أحدث الحادي في حلقة الذكر، وينشد من الأشعار الرائقة المباني الفائقة المعاني الإلهية بالموسيقاوى، ما ينعش القلوب، ويهيجها إلى التوجه إلى علام الغيوب، ويؤثر فيها تأثيرًا عظيمًا، ولقد اتفق أن السيد المذكور وصل في بعض وفاداته إلى زبيد، وأقام الذكر المذكورَ على الصفة المذكورة، وحضر الخاصُّ والعام من أهل البلد، وكان من جملة الحاضرين رجلٌ من أكابر العلماء المشغولين بذكر الله آناء