غلب عليه شوقُه، وسكر من كأس محبته، حتى عاين قدرته في كل شيء.
فكلُّ شيءٍ رآه ظَنَّهُ قَدَحًا ... وكلُّ شخصٍ رآه ظنَّه السَّاقِي
وهو مقام الجمع عندهم، لكن أهل الشرع حفظوا حمى الشريعة، ولهذا سكت عن حاله بعضهم، وقال: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 134]، والاعتقاد خير من الانتقاد، والكف أسلم، انتهى.
قال عياض في "الشفاء": وأجمع فقهاء بغداد أيام المقتدر من المالكية، وقاضي قضاتها أبو عمرو المالكي محمد بن يوسف بن يعقوب على قتل الحلاج وصلبه؛ لدعواه الألوهية، ودعواه الحلول، وقوله: أنا الحق، مع تمسكه في الظاهر بالشريعة، ولم يقبلوا توبته - يعني: لتكرر ذلك منه - انتهى.
وأقول: إن ثبت أنه تاب، ثم رجع، ثم أناب، ثم قُتل ولم يقبلوا توبته، فهذا فعلٌ لا يتأتى الإقدامُ عليه إلا ممن لم يدرك مداركَ السنة الصحيحة على وجهها - عفا الله عنا وعنهم أجمعين - "والتائبُ من الذنب كمن لا ذنب له"، وإن تكرر منه الذنب مرارًا، فالتوبة تمحو الحوبة، وإن كثرت النوبة، والله أعلم.
مفتي زَبيد، كان عالمًا مدرسًا حافظًا محدثًا، وكانت إليه رئاسة مدينة زبيد، وكان مسموعَ الكلمة، مقبولَ الشفاعة، كثيرَ الشيوخ، أخذ عنه الكثير، وانتفعوا به، قال المحبي: كان إمامًا عالمًا خاشعًا، كثيرَ الذكر والخير، ملازمًا للمسجد، أُخذ الفقه والحديث، له فتاوى كثيرة، ورسالة في العروض سماها: "آية الحائر إلى الفلك من أحرف الدوائر"، أخذ عنه جماعة، منهم: الغزي، وكان يحسن إلى الطلبة، ويجيز من قرأ عليه، وكان ينظم شعرًا، ومن شعره في الإلهيات قولُه من أبيات:
قَصْدي رِضاكَ بكلِّ وجهٍ أمكنا ... فامْنُنْ عليَّ بذاكَ من قبل الفَنَا
ولَئِنْ رَضيتَ فذاكَ غايةُ مطلَبي ... والقصدُ كلُّ القصدِ بلْ كُلُّ المُنَى
لو أبذلَنْ رُوحي فِدًى لَرَأَيْتُها ... أمرًا حقيرًا في جَنابكَ هَيِّنَا