والاحتقار، قد خلصت عن الشوائب، واطمأننت إلى الرغائب، عزلت عنها حبَّ الدنية، وألبستها القناعة القوية، ووثقت منها بالتوكل، وربطت عِنانَها بالتأمل، وزهدتَ فيما عند الناس، ورغبتَ فيما عند ربِّ الناس، وإن سافر، فنعم الأنيسُ للمسافر، كالبدر السافر، والخبير المساير، والحبيب المسامر، يؤثر على نفسه الرفيق، ويَهديه إلى أوضح طريق، ويقضي له ما يريد، ويُبدي له البِشْر ويعيد، ولقد عاود البيتَ العتيق أعوامًا، ولم يشف له أوامًا، وسكن فيه مرارًا متعددة، ونال ببركته أنوارًا مترددة، ونال القِدْحَ المعلَّى، وسبقَ في ميدان المصلَّى، انتهى.
وبالجملة: كان السيد واحدًا من الفحول الأعلام، وشيخًا عظيمًا من شيوخ الإسلام، وإمامًا من أئمة السنة المطهرة، وعالمًا بالأحاديث عاملاً بها بالطبيعة المنورة، طارحًا للتقليد والآراء، مجانبًا عن أهل البدع والأهواء، ترجمَ له جمعٌ من العلماء جَمّ، بما يذهب معه كل غم وهم، قدس الله سره، ورفع في العالمين ذكره.
زين زمانه، وعين أعيانه، درة تاجه، وعقيلة نتاجه، قال الخفاجي في "الريحانة": كان في عصره بيتَ القصيدة، وعنوانَ الأدب وأول الجريدة، لم تُعقد على مثله الخناصر، ولم تحمل بتوءم له بطونُ الدفاتر، تفقه على مذهب أحمد بن حنبل، فكان لطلابه سهلَ المورد عذبَ المنهل.
ع * وللناس فيما يعشقون مذاهب * وهم في كل عصر أقل من القليل، وهكذا الكرام كما قيل:
يقولون لي قد قَلَّ مذهبُ أحمدٍ ... وكلُّ قليلٍ في الأنامِ ضئيلُ
فقلتُ لهم مهلاً! غَلِطْتُم بزعمِكُم ... أَلَمْ تعلموا أَنَّ الكرامَ قليلُ
وما ضَرَّنا أَنا قليلٌ، وجارُنا ... عزيزٌ، وجارُ الأكثرينَ ذليلُ
وهو جواد لم يهب إن وهب، فالذهبُ عنده كاسمه ذهب، انتهى. ثم ذكر شيئًا من أشعاره.