تقارب الثمانين، وسلك من غرائبه وغوامضه طرقًا متشعبةَ الأَفانين، ولم يزل على حاله إلى أن دخل في خبر كان، وتبدلت حركاته بالإسكان، توفي سنة 745، وصُلِّي عليه بدمشق صلاة الغائب، وكان مولده سنة 654، وله اليدُ الطولى في التفسير والحديث، وتراجم الناس وطبقاتهم، وله التصانيف التي سارت وطارت، وانتشرت وما انتثرت، وقرئت ودريت، ونسخت وما فسخت، أخملت كتب المتقدمين، وقرأ الناس عليه، وصاروا أئمة وأشياخًا في حياته. وكان حسنَ العِمَّة، مليحَ الوجه، ظاهرَ اللون، مُشرب الحمرة، مُنَوَّرَ الشيبة، كبيرَ اللحية، مسترسلَ الشعر، وكان فيه خشوع، يبكي إذا سمع القرآن، ويجري دمعُه عند سماع الأشعار الغزلية. قال الأدفوي، قال لي: إذا قرأتُ أشعارَ العتق، أميل إليها، وكان أولاً يرى رأيَ الظاهرية، ثم إنه تمذهب للشافعي، وكان أولاً يعتقد في الشيخ ابن تيمية، وامتدحه بقصيدة، ثم إنه انحرف عنه لما وقف على كتاب "العرش" له.
قلت: وليس الأمر كذلك، قال في "البدر الطالع": وكان ظاهريًا، وبعد ذلك انتمى إلى الشافعي، وكان أبو البقا يقول: إنه لم يزل ظاهريًا، قال ابن حجر: كان أبو حيان يقول: محال أن يرجع عن مذهب الظاهر مَنْ علقَ بذهنه، انتهى. ولقد صدق في مقاله، فمذهب الظاهر هو أول الفكر، وآخر العمل عندَ مَنْ منُح الإنصاف، ولم يَرِدْ على فطرته ما يغيرها عند أهلها، وليس هو مذهب داود الظاهري وأتباعه فقط، بل هو مذهب أكابر العلماء المقيدين بنصوص الشرع من عصر الصحابة إلى الآن - وداود واحد منهم -، وإنما اشتهر عنه الجمود في مسائل وقفَ فيها على الظاهر حيث لا ينبغي الوقوف، وأهمل أنواع القياس ما لا ينبغي لمنصف إهماله.
وبالجملة: فمذهب الظاهر: هو العمل بظاهر الكتاب والسنة بجميع الدلالات، وطرح التعويل على محض الرأي الذي لا يرجع إليهما بوجه من وجوه الدلالة، وأنت إذا أمعنت النظر في مقالات أكابر المجتهدين المشتغلين بالأدلة، وجدتَها مذهبَ الظاهر بعينه، بل إذا رُزقت الانصافَ، وعرفت العلومَ