التأويل من الفقهاء، وسَعَوا به عليه، وعُقد له مجلس بدار السلطان حضرة القضاة، فأصر على قوله، وأباحوا إراقة دمه، فشفع فيه جماعة إلى السلطان من الأمراء والأكراد، وتوسطوا في أمره على أن يخرج من دمشق إلى مصر - فأُخرج إلى مصر، وأقام بها خاملاً إلى حين وفاته.

قال يوسف بن خليل: دُعي إلى أن يقول: لفظي بالقرآن مخلوق، فأبى، فمُنع من التحديث بدمشق، وسافر إلى مصر، فأقام بها إلى أن مات. وكان السلفيُّ لا يقول لأحد: الحافظ، إلا لعبد الغني، وكان مجتهدًا على طلب الحديث وسماعه للناس من قريب وغريب، فكان كل غريب يأتي يسمع عليه، أو يعرف أنه يطلب الحديث، يكرمه، ويبره، ويحسن إليه إحسانًا كثيرًا، وأحيا به الله حديث رسوله - عليه السلام -.

قال الحافظ إبراهيم العراقي: ما رأيت الحديث كله في الشام إلا ببركته، وذكر أنه كان يفضل الرحلة للسماع على غزو، وعلى سائر النوافل، وكان يقرأ الحديث ويبكي ويُبكي الناس. قال بعض المصريين: ما كنا إلا مثل الأموات حتى جاء الحافظ، فأخرجنا من القبور. قال موفق الدين: كمل الله فضيلته بابتلائه بأذى أهل البدعة، وعداوتِهم إياه، وقيامهم عليه، إلا أنه لم يُعَمَّر حتى يبلغ غرضه في رواية الأحاديث ونشرها - رحمه الله -. وكان لا يكاد يضيع شيئًا من زمانه بلا فائدة، وكان يقول: تعال! حتى نحافظ على الوضوء لكل صلاة، قال أيضًا: وكان يستعمل السواك كثيرًا حتى كأن أسنانه البَرَد، وكان لا يرى منكرًا إلا غيره بيده أو لسانه، وكان لا تأخذه في الله لومة لائم، ولقد رأيته مرة يهريق خمرًا، فجبذ صاحبُه السيفَ، فلم يخف من ذلك، وأخذه من يده، وكان - رح - قويًا في بدنه، قويًا في أمر الله، وكثيرًا ما كان يكسر الطنابير والشبابات بدمشق، وكان قد وضع الله له الهيبة في قلوب الخلق، وأنه دخل يومًا على الملك العادل، فلما رآه، قام له، فقال الناس: آمنا بكرامتك يا حافظ. وذكروا أن العادل قال: ما خفتُ من أحد ما خفتُ من هذا، فقلنا: أيها الملك! هذا رجل فقيه، أيش خفت من هذا؟ قال: لما دخل، ما خُيل إليَّ إلا أنه سَبعُ: يريد أن يأكلني، فقلنا: هذه كرامة الحافظ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015