مجلس مالك جماعةٌ من أصحابه، فقال قائل: قد حضر الفيل، فخرج أصحاب مالك كلهم لينظروا إليه، ولم يخرج يحيى، فقال له مالك: ما لك لا تخرج فتراه لأنه لا يكون بالأندلس؟ فقال: إنما جئت من بلدي لأنظر إليك، وأتعلم من هديك وعلمك، ولم أجىء لأنظر إلى الفيل، فأعجب به مالك، وسماه: عاقل أهل الأندلس.
ثم إن يحيى عاد إلى الأندلس، وانتهت إليه الرئاسة بها، وبه انتشر مذهب مالك في تلك البلاد، وتفقه به جماعة لا يحصون عددًا، وروى عنه خلق كثير، وأشهر روايات "الموطأ" وأحسنها رواية يحيى بن يحيى المذكور، وكان مع إمامته ودينه معظمًا عند الأمراء، مكينًا عفيفًا عن الولايات، متنزهًا، جلَّت رتبته عن القضاء، فكان أعلى قدرًا من القضاة عند ولاة الأمر هناك؛ لزهده في القضاء، وامتناعه منه.
قال أبو محمد علي بن أحمد المعروف بابن حزم الأندلسي، المقدم ذكره: مذهبان انتشرا في مبدأ أمرهما بالرئاسة والسلطان: مذهب أبي حنيفة؛ فإنه لما ولي قضاء القضاة أبو يوسف يعقوب صاحبُ أبي حنيفة، كانت القضاة من قبله، فكان لا يولي قضاء البلدان من أقصى الشرق إلى أقصى إفريقية إلا أصحابَه، والمنتمين إليه، وإلى مذهبه.
ومذهب مالك بن أنس عندنا في بلاد الأندلس، فإن يحيى بن يحيى كان مكينًا عند السلطان، مقبولَ القول في القضاة، فكان لا يلي قاض في أقطار بلاد الأندلس إلا بمشورته واختياره، ولا يشير إلا بأصحابه، ومن كان على مذهبه، والناس سراع إلى الدنيا، فأقبلوا عليه يرجون بلوغَ أغراضهم به، على أن يحيى بن يحيى لم يل قضاء قط، ولا أجاب إليه، وكان ذلك زائدًا في جلالته عندهم، وداعيًا إلى قبول رأيه لديهم.
حكى أحمد بن أبي الفياض في كتابه، قال: كنت عند الأمير عبد الرحمن بن الحكم الأموي المعروف بالمرتضى، صاحبِ الأندلس، فأرسل إلى الفقهاء يستدعيهم إليه، فأتوا إلى القصر، وكان عبد الرحمن المذكورُ قد نظر في شهر