وهذا يعني أن موجات من القيسية قد استقرت في أرض المعدن واشتغلوا بالتعدين، وكذلك جماعات من السبئية، أسهموا جميعاً في هذه المهنة، كما أسهم إخوانهم من هؤلاء وأولئك، في الزراعة والتجارة في أنحاء مصر المختلفة. ولا شك أن إحداث التوازن القَبَلي بين هذه الجماعات على النحو الذي أشرنا إليه فيما سبق، كان له أثر في ذلك الاستقرار. على أنه لا سبيل إلى إنكار أن جماعات أخرى من عرب مصر آثرت حياة الرحلة والتنقل على طريقة أهل البادية. ولم تكد تنتهي هذه المرحلة التي نتحدث عنها، حتى كان عرب مصر قوى متكافئة، من جهة، متفرقة على ديار مصر بنسب أكثر وأشد تنوعاً من ذي قبل، من جهة أخرى، ومنقسمة من حيث طبيعة العمل، إلى فريقين، فريق مستقر أو شبه مستقر، أنصرف إلى أرض يزرعها أو بضاعة يتجر فيها، أو منجم يستخرج منه المعدن، وفريق آخر حياة البداوة، يعيش على الأطراف، يرعى إبله أو يغير على جيرانه، أو يقطع الطريق على المسافرين. ونحن نعتقد أن مرحلة التكافؤ هذه، تمثل في تاريخ العرب في مصر، دورة كاملة قائمة بذاتها، انتهت إلى استقرار أكثرهم في أرياف مصر ونواحيها، وامتزاج كثير منهم بالسكان السابقين. أما المرحلة التالية، وهي دور الأحلاف، فقد كان قوامها بقايا العرب الذين احتفظوا - إلى حد ما - بتنظيمهم القبلي، مضافاً إليهم أفواج العرب المهاجرين إلى مصر في الأجيال التالية. ومن المؤسف أن نصيب العرب الذين استقروا في مصر في هذه المرحلة، في مصادر تاريخ مصر، ضئيل جداً، ولعل المقريزي في مقدمة " البيان والإعراب "، يشير إلى شيء من هذا حين يقول: " إن العرب الذين شهدوا فتح مصر قد أبادهم الدهر، وجُهلت أحوال أكثر أعقابهم، وقد بقيت من العرب بقايا بأرض مصر "، غير أن عبارة المقريزي لم توضح لنا لماذا جهلت أحوال أكثر هؤلاء؟ ولا شك أن كثيراً من الجماعات الأولى من القيسية والسبئية الذين آثروا حياة الاستقرار، واختلطوا بأهل القرى، لم يجدوا من مؤرخي الأزمنة التي سبقت عهد المقريزي من يتابع أخبارهم، ويتعقب أصولهم العربية، ولهذا تنوسيت أنسابهم، وجهلت