ثالثاً كان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قد حرم ملكية الأرض على الجنود الذين فتحوا الأمصار وسكنوها، حتى ينصرفوا إلى واجبهم الحربي وحده، ثم كان القيسية أول من أُذن لهم في ملكية الأرض واستغلالها كما أسلفنا، أما معظم القبائل السبئية، فقد انصرفوا عن الحياة الزراعية زمنا بعد استقرار القيسية في بلبيس، وربما يعزى هذا إلى ميل هذه القبائل إلى سكنى الأطراف بعيداً عن أرياف مصر وقراها. وهذا قد يفسر لنا لماذا كان انتشار الإسلام في مصر، في المرحلة السابقة، أعني في القرن الأول الهجري، قليلاً محدود الأثر، ذلك أن اختلاط أعقاب سبأ بسكان الريف والقرى كان قليلا، ومن الجائز أن تكون حركة توطين القيسية في الحوف الشرقي كانت تستهدف - أيضاً - نشر الإسلام وتقوية شوكته في مصر. وسواء أكان هذا مقصوداً منذ البداية أم لم يكن، فلا مراء في أن توطين القيسية، واشتغالهم بالزراعة، قد ساعد على اختلاطهم بالأهالي، في المناطق البعيدة والمجاورة، فكان ذلك عاملاً من عوامل نشر الإسلام. وفي هذا يقول المقريزي: " ولم ينتشر الإسلام في قرى مصر إلا بعد المائة من تاريخ الهجرة، عندما أنزل عبيد الله بن الحبحاب مولى سلول قيساً بالحوف الشرقي. فلما كان بالمائة الثانية من سني الهجرة كثر انتشار المسلمين بقرى مصر ونواحيها ". ولم يكن تكافؤ القوتين، القيسية والسبئية، مقصوراً على الحوف الشرقي وحده. ولم تكن الأفواج المهاجرة من القيسية إلى مصر، هي السبيل الوحدى لإحداث هذا التكافؤ. فقد تواترت الأحداث في خلال هذه المرحلة، وكانت كلها تتجه، قصداً أو أتفاقاً، إلى أمرين: نزوح هجرات قيسية جديدة إلى أنحاء مختلفة من مصر. وتفتت الكتل السبئية التي كانت بمصر أو هاجرت إليها في هذه المرحلة. ولسنا بحاجة إلى القول بأن هذا التفتت كان عاملا هاماً من عوامل هذا التكافؤ، ولا سيما إذا افترضنا أن السبئية، حتى بعد هجرة القيسية إلى الحوف الشرقي، كانوا ما زالوا يفوقون إخوانهم في القوة والعدد بالنظر إلى أنحاء مصر كلها. ذلك أن هذا التفتت قد أدى بالكتلة الواحدة إلى التفرق على جهات متعددة، وفي ذلك ما يحد من قوتها ويحول دون رجحان كفتها. ففي عهد مروان