الواقع أن السياسة التركية التي ظهرت في المرحلة السابقة، واستمرت في مصر في العصور الحديثة على يد الأتراك العثمانيين إلى نهاية أسرة محمد علي، قد وقفت من مصر العربية موقفاً يعبر عن مصلحة الحاكم الأجنبي أولا وقبل كل شيء. ذلك أنه لم يكن بينه وبين الشعب الذي وَغَلَ عليه أواصر حقيقية تربطه به، وكل ما في الأمر أنه نظر إلى البلد الذي يحكمه على أنه أرض تمتلك، فوثب عليها، وتصرف في بقاعها كيف يشاء، يفرقها على أقربائه والمقربين إليه، وإذا أنعم على بعض الأهالي بشيء منها فليس ذلك أملا في أن يذعنوا لأمره، ويخدموا مصالحه. لقد حاول محمد علي - مثلا - توطين بعض قبائل البدو، ولكن لم يكن هذا في حقيقة الأمر إلا عملا يدور في فلك السياسة التركية، ويخدم أهداف هذه السياسة، ولو أدى ذلك إلى خلق نظام إقطاعي كريه. منح محمد علي أبعاديات ضخمة لأفراد أسرته والرؤساء المقربين إليهم، منحها لعناصر تركية والبانية وشركسية وإغريقية ومورالية " نسبة إلى شبه جزيرة المورة " واتسع كثير من هذه الأبعاديات حتى أصبحت قرى مثل قرية الإبراهيمية وقرية المحمودية. وكان لا بد لهذه المساحات الواسعة من أيد تتولى زراعتها، فانتقل كثير من البدو إلى العمل هناك. ورأى محمد علي أن بعض القبائل ذات الشوكة لن تتركه ينعم بالحكم، فلم يجد مناصا من أن يمنح رؤساءهم مساحات صالحة للزراعة، وأصدر أمره إليهم أن يزرعوها بأنفسهم وإلا نزع عنهم ملكيتهم. فكان من أثر ذلك أن ترك كثير من البدو حياة البداوة واستقروا لزراعة الأرض. ولما اشتد النزاع بين الهنادي وأولاد على مديرية البحيرة، وأقلقوا راحة السلطان، حول هنادي كلهم إلى مديرية الشرقية، ولم يمنحهم أرضاً في بادىء الأمر، ولكن استخدمهم لجمع ضريبة الأرض. وعندما حصرت موارد الدولة، منحوا مساحات واسعة في منطقة وادي طميلات بالشرقية. هذا فيما يتعلق بتوطين بعض عرب الصحراء في البلاد الداخلية. ولكن هناك عدد وافر من القبائل كان لا يزال يعيش في الصحارى، فماذا كان موقف السياسة التركية والأوربية منهم؟ دخلت جيوش الاحتلال البريطاني مصر، وأخذوا بمعاونة أسرة محمد علي يستميلون البدو، ويستغلون الخلاف بين القبائل المتنازعة،