آماله. فلما رجع الفتيان، أمرهم الأمير عبد الرحمن برفع تلك الخرائط المبسوطة؛ فوجدوا نقصان تلك الخريطة؛ فتدافعوا فيها إذ ذاك، كل يقول لصاحبه: (أنت أخذتها من هناك!) فقال لهم الأمير: (أسكنوا عن هذا! فقد أخذها من لا يردها، وعاينه من لا يقولها!) فكان هذا مما عدَّ من كرمه وفضله.
وكانت له جارية تسمى طروب، كان بها دنفا؛ فصدت عنه يوما، وأبدت هجرانه. فأرسل فيها؛ فامتنعت عليه، وأغلقت على نفسها بيتا. فأمر ببنيان الباب بالخرائط المملؤة من الدراهم، استرضاء لها، واستعطافا لوصلها. فلما فتحت الباب، تساقطت الخرائط من كل جانب؛ فأخذتها؛ فألفت فيها نحوا من عشرين ألفا؛ وأمر لها يعقد قيمته عشرة آلاف دينار؛ فجعل بعض من حضر من وزرائه يعظم الأمر عليه؛ فقال له الأمير عبد الرحمن: (إن لابسه أنفس منه خطرا وأرفع قدرا! ولئن راق من هذه الحصباء منظرها، ورصف في النفس جوهرها، فلقد برأ الله من خلقه جوهرا يغشى الأبصار، ويذهب بالألباب. وهل على وجه الأرض من زبرجدها وشريف جوهرها أقر لعين، وأجمع لزين، من وجه أكمل الله فيه الحسن ونضرته، وألقى عليه الجمال بهجته؟) ثم قال لعبد الله بن الشمر الشاعر وكان حاضرا: (هل يحضرك شئ في المعنى؟) فأنشد (طويل) :
أتُقرَنُ حَصباءُ البواقِيت والشذرِ ... بِمَنْ يتَعَالى عن سَنَا الشَمسِ والبَدْرِ
بِمَن قَد بَرَت قِدما يَدُ الله خلقَهُ ... وَلَم يَكُ شيئاً قَبَلهُ أبَداً يَبْرِى
فأكْرِمْ به مِنْ صَنْعةٍ اللهِ جَوهراً ... تَضَاءلَ عنه جَوَهَرُ البَرِّ والبحرِ
فأعجبت الأمير الأبيات وطرب لها طربا شديدا. وأنشد الأمير مرتجلا (طويل) :
فَريضُكَ يَا ابن الشَّمر عني على الشِعرِ ... وجَلَّ عن الأوهامِ والذِّهْنِ والفِكرِ
إذا شافَهتْهُ الأذنُ أدَّى بسحرها ... إلى القلب إبداعاً فجَلَّ عن السِحرِ
وَهَل بَرأ الرّحْمنُ من كلِّ ما برأ ... أقرَّ لعِينٍ من منَهمةٍ بِكرِ
تَرَى الوردَ فوقَ اليَاسَمينِ بخدِّها ... كَمَا فوق الرَّوْضُ المُنَعَّمُ بالزَّهرِ
فَلَو أنَّني ملكتُ قَلبي وناظِري ... نَظَمُتُهما مِنها على الجِيدِ والنَّحرِ