جلس في رداء معصفر، وشعر مفرق؛ فإذا طلب ما عنده، وجد أفضل الناس وأورعهم.
وكان الحكم يقول: (ما تحلى الخلفاء بمثل العدل!) وكانت فيه بطالة، إلا أنه كان شجاع النفس، باسط الكف، عظيم العفو. وكان يسلط قضاته وحكامه على نفسه، فضلا عن ولده وخاصته. وكانت للحكم ألف فرس مرتبطة بباب قصره على جانب النهر، عليها عشرة من العرفاء، تحت يد كل عريف مائة فرس؛ فإذا بلغه عن ثائر ثار في أطرافه، عاجله قبل استحكام أمره؛ فلا يشعر حتى يحاط به. وجاءه الخبر يوما أن جاب بن لبيد محاصر لجيان، وهو يلعب بالصولجان في القصر؛ فدعا بعريف من أولئك العرفاء، وأسر إليه أن يخرج بمن تحت يده إلى جابر بن لبيد؛ ثم فعل كذلك مع أصحابه من العرفاء. فلم يشعر ابن لبيد حتى تساقطوا عليه مسربلين في الحديد؛ فلما رأى العدو ذلك، سقط في يده، وظن أن الدنيا قد حشرت إليه؛ فولى بمن معه منهزما.
وكان الحكم فصيحا بليغا شاعرا مجيدا. فمن شعره - رحمه الله! - يتغزل، وذلك أنه كان له خمس جوار قد استخلصهن لنفسه وملكهن أمره؛ فذهب يوما إلى الدخول عليهن؛ فأبين عليه، وأعرضن عنه. وكان لا يصبر عنهن. فقال (البسيط) :
قُضْب من البازِ مَلسَت فَوقَ كُثْبانِ ... أعْرَضْنَ عَنّي وقد أزْمَعْنَ هِجْرانِي
ناشَدتُّهَنَّ بحقِي فاعْتزَمْن علي ... الهِجْرانِ حتَّى خَلا مِنْهنَّ هيْمانِي
مَلكنني مُلكَ مَنْ ذَلتْ عَزِيمَتُهُ ... للحبِّ ذُلَّ أسِير موثَّقٍ عانِي
مَنْ لي بُمغْتَصباتِ الرُّوح من بَدنِي ... عصبنب في الهوى عِزّي وسلطانِي
ثم إنهنَّ عدن عليه بالوصل؛ فقال (خفيف) :
نِلْتُ كُلَّ الوصال بعد البِعَادِ ... فكأنِي مَلكْتُ كُلَّ العِبادِ
وتَنَاهَى السُّروُر إذْ نِلتُ مَا لَمْ ... يُغنِ فيه تَكاشُفُ الأجْنَادِ