كان الحكم - رحمه الله! - شديد الحزم، ماضي العزم، ذا صولة تتقى. وكان حسن التدبير في سلطانه، وتوليه أهل الفضل والعدل في رعيته؛ وكان مبسوط اليد. وكان له قاض كفاه بورعة وعلمه وزهده؛ فمرض مرضا شديدا؛ فاغتم الحكم لمرضه؛ فذكر بعض خاصته أنه أرق ليلة أرقا شديدا، وجعل يتململ على فراشه؛ فقيل له: (أصلح الله الأمير! ما الذي عرض؟) فقال: (ويحكم! إني سمعت في هذه الليلة نادبة، وقاضينا مريض، وما أراه إلا وقد قضى نحبه. فأين لي بمثله، ومن يقوم بالرعية مقامه؟) فمات القاضي في تلك الليلة، وهو المصعب بن عمران قاضي أبيه. فولى بعده محمد بن بشير.
فكان أقصد الناس إلى حق، وأبعدهم من جور، وأنقذهم بحكم. ورفع إليه رجل من أهل كورة جيان أن عاملا للحكم اغتصبه جارية، وصيرها إلى الحكم؛ فوقعت من قلب الحكم كل موقع؛ فأثبت الرجل أمره عند القاضي، وأتاه بينة تشهد على معرفة ما تظلم منه ويملكه للجارية وبمعرفتهم بها. فأوجبت السنة أن تحضر الجارية؛ فاستأذن القاضي على الحكم؛ فأذن له؛ فلما دخل عليه، قال له: (أيها الأمير! أنه لا يتم عدل في العامة دون إقامته في الخاصة!) وحكى له أمر الجارية، وخيره بين إبرازها للبينة ليشهد على عينها، أو عزله. فقال له الحكم: (أولا. أدعوك إلى خير من ذلك! تبتاع الجارية من صاحبها بأبلغ ما يطلب فيها.) فقال القاضي: (إن الشهود قد شهدوا من كورة جبان، وأتى الرجل يطلب الحق في مظامه؛ فلما صار ببابك، تصرفه دون إنفاذ الحق له؛ ولعل قائلا يقول: باع ما لا يملك بيع مقور!) فلما رأى عزمه على ذلك، أمر بإخراج الجارية من قصره؛ فشهد الشهود عنده على عينها، وقضى بها لصاحبها. وكان هذا القاضي محمد بن بشير، إذا خرج للمسجد، وجلس للأحكام،