سُبْحَانَ الله اتبع الْقَضَاء للمبال. فَقَالَ: فرجتها وَالله يَا سخيلة أمسيت بعد هَذَا أم أَصبَحت، فَخرج حِين أصبح فَقضى بذلك. قلت: وَيُسْتَفَاد من هَذِه الْقَضِيَّة فَوَائِد: مِنْهَا أَن فِي ذَلِك ردعاً ومزدجراً لجهلة الْقُضَاة والمفتيين، فَإِن هَذَا مُشْرك توقف فِي حكم حَادِثَة أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَلم يتجرأ على أَن يحكم بِغَيْر علم، وَقد كَانَت الصَّحَابَة الَّذين هم أعلم الْأمة يتوقفون وَلَا يبادرون. قَالَ ابْن أبي ليلى: أدْركْت فِي هَذَا الْمَسْجِد مائَة وَعشْرين من الصَّحَابَة مَا سُئِلَ أحدهم عَن مَسْأَلَة إِلَّا وودَّ أَن صَاحبه كَفاهُ، وَكَانَ بَعضهم يحِيل على بعض، وَفِي الْمواق أَن الإِمَام النعالي سُئِلَ من برقة عَمَّن قَالَ لامْرَأَته: إِن فعلت كَذَا فلست لي بِامْرَأَة فَبَقيَ سنة كَامِلَة يَتَأَمَّلهَا فَمَا خرج الحكم بِلُزُوم الطَّلَاق إِلَّا بعد مُضِيّ سنة، وَعَلِيهِ عول (خَ) فِي قَوْله: أولست لي بِامْرَأَة إِلَّا أَن يعلق فِي الْأَخير. وَمِنْهَا: أَن الْحِكْمَة فِي الْعلم قد يخلقها الله تَعَالَى على لِسَان من لَا يظنّ بِهِ مَعْرفَتهَا كهذه الْأمة وَإِن عجز عَنْهَا أهل الفطنة والعقول الراسخة، وَفِي التَّنْزِيل: يُؤْتِي الْحِكْمَة من يَشَاء} (الْبَقَرَة: 269) الْآيَة. وَمِنْهَا: أَنه يَنْبَغِي لمن نزل بِهِ أَمر معضل أَن يَسْتَعِين بِغَيْرِهِ كَمَا فعل هَذَا الجاهلي، وَلَو كَانَ الْغَيْر دونه عقلا وعلماً لِأَنَّهُ قد يُوجد فِي النَّهر مَا لَا يُوجد فِي الْبَحْر. وَمِنْهَا: وجوب الْإِنْصَاف إِذا ظهر الْحق كَمَا أنصف هَذَا الجاهلي لهَذِهِ الْأمة، واعترف لَهَا بِالْحَقِّ وَالْفضل، وَمَا أقبح بالإنسان أَن يَسْتَفِيد ويجحد، وَللَّه در شهَاب الدّين الْقَرَافِيّ وَكَانَ يتَمَثَّل بِهِ كثيرا حَيْثُ قَالَ: وَإِذا جَلَست إِلَى الرِّجَال وأشرقت فِي جو باطنك الْعُلُوم الشرد فاحذر مناظرة الجهول فَرُبمَا تغتاظ أَنْت ويستفيد ويجحد وَمِنْهَا: أَن المذاكرة سَبَب النَّفْع كَمَا تَذَاكر هَذَا الجاهلي مَعَ هَذِه الْأمة، وَقد قيل فهم سطرين خير من حفظ، وقرين ومذاكرة اثْنَيْنِ خير من هذَيْن وَللَّه در الْقَائِل: وَللَّه قوم كلما جِئْت زَائِرًا وجدت قلوباً كلهَا ملئت حلما إِذا اجْتَمعُوا جاؤا بِكُل فَضِيلَة ويزداد بعض الْقَوْم من بَعضهم علما وَمِنْهَا: أَن قَول الْإِنْسَان لَا أَدْرِي لَا يُنَافِي كَمَال الْعلم والفهم كَمَا فعل الجاهلي حَيْثُ قَالَ: امهلوني. وَكَانَ ابْن عمر رَضِي الله عَنهُ يُسأل عَن عشر مسَائِل، ويجيب عَن وَاحِدَة. وَيَقُول فِي الْبَاقِي: لَا أَدْرِي، وَسُئِلَ مَالك عَن ثَمَان وَأَرْبَعين مَسْأَلَة فَقَالَ فِي اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ مِنْهَا: لَا أَدْرِي، وَمن كَلَامه رَحمَه الله: إِذا سُئِلت عَن علم وَأَنت لَا تعلمه فَقل: لَا أَدْرِي، فَإِن الله يعلمك مَا لم تكن تعلم، وَفِي الحكم من رَأَيْته مجيباً عَن كل مَا سُئِلَ، ومعبراً لكل مَا شهد، وذاكراً لكل مَا علم، فاستدل بذلك على جَهله، وَالْوَاو فِي كَلَامه بِمَعْنى (أَو) إِذْ كل من الثَّلَاثَة دَلِيل الْجَهْل، وَذَلِكَ لِأَن الْجَواب عَن كل سُؤال يتَضَمَّن دَعْوَى الْإِحَاطَة بِالْعلمِ وَلَيْسَت إِلَّا لعلام الغيوب. وَمِنْهَا: أَن الرياسة لَا تحصل إِلَّا بِالْعلمِ إِذْ النُّفُوس لَا تذعن إِلَّا لمن كَانَ أعلم مِنْهَا، فالعرب إِنَّمَا اتَّخذُوا ابْن الظرب رَئِيسا لما اعتقدوا فِيهِ من فهم المشكلات وَحل المعضلات، وَلم يخلق الله تَعَالَى أشرف مَعَ الْعلم، وَبِه شرفت الْمَلَائِكَة والأنبياء، وَمن أَجله سجدت الْمَلَائِكَة لآدَم حِين علمه ربه الْأَسْمَاء، وَلم يَأْمر الله سُبْحَانَهُ نبيه بِطَلَب الزِّيَادَة من شَيْء إِلَّا من الْعلم فَقَالَ: يَا مُحَمَّد وَقل رب زِدْنِي علما، وَلذَا حث النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام على طلبه فَقَالَ (اطْلُبُوا الْعلم وَلَو

طور بواسطة نورين ميديا © 2015