(الشورى: 15) تجد أن الخطاب في قوله: {اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} للكافرين المنكرين للتوحيد، فظاهر الحال يقتضي تأكيد الكلام دفعًا للإنكار، ولكنه ينزلهم منزلة غير المنكرين لأن أمامهم من الأدلة على وجود الله ووحدانيته في هذا الكون -المحكم البناء والبديع الصنع- ما لو تأملوه وتفكروا في شواهده لاقتنعوا بصدق هذا الخبر، ولذلك جاء الكلام غير مؤكد؛ إشارة إلى أن إنكارهم لا يلتفت إليه فهو كلا إنكار.
ومن ذلك قول الله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} (المائدة: 64) فاليهود ينكرون فضل الله عليهم، وأنه أعطاهم حتى صاروا أكثر أهل الأرض مالًا ويتطاولون بهذه المقالة الشنيعة {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} فيصفون يده بالبخل، ومع ذلك جاء الرد عليهم خاليًا من التوكيد: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} لأنهم لو تجردوا من الهوى وأنصفوا في الحكم لأدركوا عظيم فضل الله عليهم، فهو الكريم الذي يجود بالخير على عباده وينفق عليهم وفق ما تقتضيه الحكمة والمصلحة، ولذلك نزل إنكارهم منزلة عدمه. ومنه على سبيل النفي قول الله تعالى في شأن القرآن الكريم: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} (البقرة: 2) فإن معناه أن القرآن ليس محل شك، وهذا حكم ينكره المخاطبون من الكفار، فكان مقتضى الظاهر التأكيد، ولكن القرآن لم يعبأ بإنكارهم فنزلهم منزلة غير المنكرين؛ لأنه من وضوح الدلالة وسطوع البرهان بحيث لا ينبغي لأحد أن يرتاب فيه، ولذلك جاء الخبر خاليًا من التوكيد تنزيلًا لإنكارهم منزلة عدمه، وفي ذلك من توهين حجة الخصم ما لا يخفى على المتأمل.
ولعلك تلاحظ معي أن المنكر قد نزل منزلة خالي الذهن في الأمثلة المذكورة، وقد ينزل المنكر منزلة المتردد، وهذه صورة متفرعة عن صور تنزيل المنكر منزلة غير المنكر؛