فهذا التعريف مع وضوحه يشير إلى غاية البلاغة، والأثر الذي تحدثه في نفس القارئ والسامع، كما يركز على حسن الصورة فليست البلاغة إفهام المعنى فقط؛ لأن العيي يفعل ذلك، وإنما البلاغة إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ، وبذلك يتفاضل القائلون، ويعلو بعض الكلام على بعضه في درجات البلاغة. وقد عرف المتأخرون البلاغة بقولهم: هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحته. كذا في (الإيضاح) للقزويني.

ولكي نفهم هذا التعريف لا بد من الوقوف على معنى مصطلحي الحال ومقتضى الحال حتى يتسنى لنا إدراك معنى المطابقة لمقتضى الحال، وهو التعريف المأثور للبلاغة، والذي ارتضاه المتأخرون من علماء البلاغة وتناقلوه جيلًا بعد جيل حتى وصل إلينا كما وضعه الخطيب القزويني في كتابه (الإيضاح). فالحال هو الأمر الداعي للمتكلم إلى أن يورد في كلامه خصوصية ما، ويسمى مقامًا أيضًا، فالحال والمقام متقاربا المفهوم، والتغاير بينهما اعتباري، فإن الأمر الداعي مقام باعتبار كونه محلًّا لوقوع الكلام فيه، وحال باعتبار كونه زمانًا بوقوع الكلام فيه. وثمة فرق آخر هو أن المقام يضاف إلى المقتضى فيقال: مقام التأكيد، ومقام التعريف، ومقام الحذف، ومقام الذكر. أما الحال فإنه يضاف إلى المقتضي -بالكسر- فيقال: حال الإنكار وحال خلو الذهن وحال الشك وحال الذكاء وغير ذلك.

ومقتضى الحال إذن هو تلك الخصوصية التي استدعاها المقام، ويسمى أيضًا بالاعتبار المناسب. ومطابقة الكلام لمقتضى الحال هو مجيء الكلام مشتملًا على تلك الخصوصية التي اقتضاها الحال. وعلى سبيل المثال، كون المخاطب منكرًا للحكم هذا حال، يقتضي تأكيد الكلام لدفع الإنكار، فالإنكار حال، والتأكيد

طور بواسطة نورين ميديا © 2015