الموحِش، فلما ذكر الشاعر هنا أن الطلل قد هاج أهواءه المكنونة، اشتاقت النفس إلى معرفة خبر هذا الطلل وصفته، وكأنها ساءلت: ما خبر هذا الطلل؟ وما صفته؟ فاستأنف الشاعر حديثًا عنه، وبنى الكلام على حذف صدر الاستئناف وهو المسند إليه، فقال: "ربعٌ قواءٌ أذاع المعصرات به"، ونظيره كثير مما يقطع فيه الشعراء كلامهم ويستأنفون معانٍ أخرى فيحذفون عندئذ صدر الاستئناف لدلالة الأدلة عليه، فإن قلتَ: ألا يؤدي حذف صدر الاستئناف إلى احتياج جملة الاستئناف إلى ما قبلها؟ وعندئذ لا يكون انفصالها تامًّا واستقلالها كاملًا، قلت: ليس كل حذف يؤدي إلى الاحتياج وعدم الاستقلال، بل إن الحذف في الشواهد المذكورة قد ساعد على استقلال الجمل المستأنفة وعدم احتياجها إلى ما قبلها، ويتضح لك هذا عندما تقدر المحذوف فتقول فيما جاء من ذلك من أقوال الشعراء: ذاك ربع قواء، تلك دار لمروة، هم بناة مكارم، هو فتى غير محجوب الغنى، هم نجوم سماء، إذ تجد أن اسم الإشارة والضمير قد جعل تلك الجمل مرتبطة بما قبلها محتاجة إليه، أما الحذف فيجعلها مستقلة عنه.
ومما حُذف فيه صدر الاستئناف في آي الذكر الحكيم قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} (النور: 36، 37) بقراءة "يُسبّح" مبنيّا للمفعول، وكأن سائلًا سأل: من يسبح؟ فأجيب: رجال بحذف صدر الاستئناف وهو هنا المسند، ومن ذلك أسلوب نعمَ وبئس، مثل: نعم الرجل خالد وبئس رجلًا عمرو، على اعتبار أن المخصوص بالمدح أو الذم خبرٌ لمبتدأ محذوف، وكأن سائلًا سأل: من الممدوح ومن المذموم؟ فأجيب: الممدوح خالد والمذموم عمرو، وقد يحذف الاستئناف كله، ويقوم ما يدل عليه مقامه كقول الحماسي:
زعمتم إن إخوتكم قريش ... لهم إلف وليس لكم إلاف