ثم جاء إنجاء النساء من الاستحياء نعمةً ثالثة، أما في سورة البقرة فليس المقام مقام تذكير بالنعم، بل هو سرد للقصة وعرضٌ لها، وهذا قد اقتضى أن تكون الجملة الثانية وما عطف عليها: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} (البقرة: 49) بيانًا وتفسيرًا للجملة الأولى: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} وليستا جنسين آخرين مغايرين لسَوم العذاب.
يقول الزمخشري: "فإن قلت: في سورة البقرة: {يُذَبِّحُونَ} وفي الأعراف {يُقَتِّلُونَ} (الأعراف: 141) وها هنا {وَيُذَبِّحُونَ} مع الواو فما الفرق؟ قلتُ: الفرق أن التذبيح حيث طُرح الواو جُعل تفسيرًا للعذاب وبيانًا له، وحيث أُثبت جُعل التذبيح لأنه أوفى على جنس العذاب وزاد عليه زيادةً ظاهرة، كأنه جنس آخر"، انتهى من (الكشاف).
وهذا هو شأن الواو عندما تأتي بين الجمل التي بينها كمال اتصال وقوة ترابط؛ لأن ما فيها من معنى التغاير الذي لا يبرحها ينعكس على هذه الجمل، فيوهم أنها معانٍ متمايزة ومختلفة، فوراء ذلك تكمن الأسرار والدقائق اللطيفة، وانظر إلى قول الله تعالى: {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (الشعراء: 153، 154) ثم إلى قوله -عز وجل- في نفس السورة عن قوم شعيب: {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (الشعراء: 185 - 187) تجد أن الواو قد ذُكرت بين جملتي: {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} (الشعراء: 153، 154) في مقالة أصحاب الأيكة لشعيب، وتُركت في مقالة ثمود لصالح.