وجملة {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} تفيد بلوغ القرآن في الهداية مبلغًا لا يُدرك كنهه، حتى كأنه هداية محضة، وهذا مأخوذٌ من تنكير {هُدًى} الذي يدل على التعظيم، ومن أنه لم يقل: هادٍ، بل {هُدًى}، و {هُدًى}: خبر لمبتدأ محذوف؛ أي هو هدى، فهو الهداية نفسها، ولا يخفى عليك تأكيد هذه الجملة لمعنى الجملة الأولى {ذَلِكَ الْكِتَابُ}؛ ولذا تُرك العطف بين هذه الجمل؛ لأن بينها اتصالا قويا، فهي لا تحتاج إلى ربط بالواو.
وقول الله تعالى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} (البقرة: 14)، فإنك ترى أن جملة {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} جاءت مؤكِّدة لجملة {إِنَّا مَعَكُمْ}؛ لأنهم ما داموا مستهزئين بالإسلام وأهله فهم مستمرون في معية شياطينهم، ولاحظ أن الجملتين قد وقعتا مقولًا للقول، وهذا يُؤكد ما قلناه من أن الجمل التي لها محل من الإعراب، تخضع لمواضع الفصل والوصل التي تخضع لها الجمل التي ليس لها محل من الإعراب، وتأمل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} (البقرة: 6 - 9) تجد أن جملة {لَا يُؤْمِنُونَ} جاءت مؤكّدة لجملة: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ}؛ لأن معنى الثانية: يستوي عندهم الإنذار وعدمه، وجملة {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} تأكيد ثانٍ أبلغ من التوكيد الأول؛ لأن من كان حاله إذا أنذر مثل حاله إذا لم يُنذر، كان في غاية الجهل وكان مطبوعًا على قلبه لا مَحالة؛ ولذا تُرك العاطف بين هذه الجمل الثلاث لما بينها من كمال الاتصال.