الكلام الفصيح لا بد أن يجيء ترتيب ألفاظه في النطق على حسب ترتيب المعاني في الفكر، فلا يشتمل على ما يخالف الأصل من تقديم أو تأخير أو حذف أو إضمار إلا إذا قامت قرينة تدل عليه، وبدون القرينة يكون الكلام مبهمًا معقدًا بعيدًا عن الفصاحة. الأمر الثاني: التعقيد المعنوي: وهو أن يكون الكلام غير واضح الدلالة على المعنى المراد به؛ لخلل واقع في انتقال الذهن من المعنى الأول المفهوم بحسب اللغة إلى المعنى الثاني المقصود، فلا يستطيع السامع أن يقف على المراد منه، كقول العباس بن الأحنف:

سأطلب بُعد الدار عنكم لتقربوا ... وتسكب عيناي الدموع لتجمدا

يقول الشاعر: سأوطن نفسي على تحمل الفراق، ومقاساة الأحزان والأشواق؛ لأحظى من وراء ذلك بوصل يدوم، ومسرة لا تزول، فإن الصبر مفتاح الفرج، ومع كل عسر يسر، ولكل بداية نهاية. وقد اشتمل الشطر الثاني في هذا البيت على كنايتين، الأولى في قوله: "وتسكب عيناي الدموع" حيث كنى بسكب الدموع عن الحزن الشديد نتيجة الفراق، وقد أصاب في هذا التخريج لأن البكاء عنوان الحزن، ودليل عليه كقولك: أبكاني وأضحكني. أي ساءني وسرني. ومنه قول حطان بن المعلى، وهو أحد شعراء الحماسة:

أبكاني الدهر ويا ربما ... أضحكني الدهر بما يرضى

والكناية الثانية في قوله: "لتجمدا" حيث كنى بجمود العين عن السرور بلقاء الأحبة والفرح بالوصال، وقد أخطأ في هذا؛ لأن الجمود هو خلو العين من الدموع في حال إرادة البكاء منها، لا بد من هذا القيد، فلا يكون كناية عن السرور، وإنما هو كناية عن بخل العين بالدموع وقت إرادة البكاء، والدليل على ذلك وروده في الشعر كثيرًا بهذا المعنى، كقول الشاعر:

ألا إن عينًا لم تجد يوم واسط ... عليك بجاري دمعها لجمود

وكقول الخنساء:

أعيني جودا ولا تجمدا ... ألا تبكيان لصخر الندى

طور بواسطة نورين ميديا © 2015