ونلاحظ أن المقصور في جل الشواهد المذكورة صفة، والمقصور عليه موصوف، فالقصر الحقيقي التحقيقي يقع كثيرًا في الكلام إذا كان المقصور صفة ويقل في قصر الموصوف على الصفة لماذا؟ لأن الغالب في الموصوف أن يتصف بعدة صفات، ولا يوقف على صفة واحدة، أما الصفة فيجوز وقفها على موصوف واحد وحصرها فيه، وقد غالى بعض البلاغيين فقالوا: إن قصر الموصوف على الصفة قصرًا حقيقيّا تحقيقيًّا لا يتأتى؛ لأنه ما من موصوف إلا وله صفات كثيرة، تتعذر الإحاطة بها أو تتعسر، فإذا قلنا: ما زهير إلا شاعر، وما زياد إلا كاتب، لا يتأتى أن يكون زهير مقصورًا على صفة الشعر لا يتجاوزها إلى غيرها، ولا أن يكون زياد موقوفًا على الكتابة لا يتعداها إلى غيرها، كيف وهما يأكلان ويتكلمان ويمشيان ويتصفان بالحياة وبالبياض أو السواد وبالقصر أو الطول وبالذكاء أو الغباء، إلى آخر ما يمكن أن يتصف به حي.

بل إن البعض خرج بالمسألة عن نطاق الدراسة البلاغية فقالوا: إن الصفة المنفية لها نقيض البتة، وهذا النقيض من الصفات، فإذا نفيت جميع الصفات لزم ارتفاع النقيضين، واحتدم النقاش واشتد الأخذ والرد، ودخلت المسألة في مماحكات كلامية ينبغي أن ينزه عنها الدرس البلاغي؛ لأنها من الشوائب التي تعكر صفوه وتكدر عذْبه، ولو تنبه هؤلاء إلى قول عبد القاهر في (الدلائل): "واعلم أن قولنا في الخبر إذا أخِّر نحو: ما زيد إلا قائم، أنك اختصصت القيام من بين الأوصاف التي يتوهم كون زيد عليها، ونفيت ما عدا القيام عنه، فإنما نعني أنك نفيت عنه الأوصاف التي تنافي القيام والتي هي منه بسبب، نحو أن يكون جالسًا أو مضطجعًا أو متكئا أو ما شاكل ذلك، ولم تُرِد أنك نفيت ما ليس من القيام بسبيل؛ إذ لسنا ننفي عنه بقولنا: ما هو إلا قائم، أن يكون أسود أو أبيض أو طويلًا أو قصيرًا أو عالمًا أو جاهلًا، كما أنا إذا قلنا: ما قائم إلا زيد، لم تُرِد أنه

طور بواسطة نورين ميديا © 2015