قال مخاطبًا أبا الصقر:
وكم زدت عني من تحامل حادث ... وصورة أيام حززنا إلى العظم
يريد أن يقول: إن الممدوح طالما دفع عنه عوادي الزمن، ورد عنه طغيان أيام ضربته فأوجعته، حتى بلغت في قسوتها الغاية فقوله: حززنا إلى العظم، كناية عن بلوغها الغاية في شدة، وتلاحظ أن الشاعر قد حذف مفعول حز وتقديره: حززنا اللحم إلى العظم، وهو يريد بهذا الحذف أن يقع المعنى في نفس السامع ابتداءً، إذ لو ذكر المفعول فقال: حززنا اللحم؛ لتوهم أن الحز كان ضعيفًا، وأنه أصاب بعض اللحم مما يلي الجلد ولم يصل إلى العظم، فما دفعه عنه الممدوح إذن شيء يسير، وليس صورة أيام وأحداث قد تحاملت عليه، فإذا ما وصل السامع إلى قوله: إلى العظم، اندفع هذا التوهم وزال.
ولكن الشاعر الحاذق هو الذي يوقع المعنى في ذهن سامعه من أول وهلة ولا يجعله يتصور في أول الأمر شيئًا غير مراد، ثم ينصرف إلى المراد.
يقول عبد القاهر: الأصل لا محالة: حززنا اللحم إلى العظم، إلا أن في مجيئه به محذوفًا وإسقاطه له من النطق وتركه في الضمير مزية عجيبة وفائدة جليلة، وذلك أن مَن حذق الشاعر أن يوقع المعنى في نفس السامع إيقاعًا يمنعه به من أن يتوهم في بدء الأمر شيئًا غير المراد، ثم ينصرف إلى المراد، ومعلوم أنه لو أظهر المفعول فقال: وصورة أيام حززنا اللحم إلى العظم لجاز أن يقع في وهم السامع إلى أن يجيء إلى قوله: إلى العظم، أن هذا الحز كان في بعض اللحم دون كله، وأنه قطع ما يلي الجلد ولم ينته إلى ما يلي العظم، ولما كان كذلك ترك ذكر اللحم وأسقطه من اللفظ؛ ليبرئ السامعَ من هذا، ويجعله بحيث يقع المعنى منه على أنف الفهم، أي: في أوله؛ لأن أنف الشيء أوله.