ومن ذلك قول طرفة بن العبد:
فإن شئتَ لم ترقل وإن شئت أرقلت ... مخافةَ ملوى من القد مُحصد
لم تَرقل: لم تسرع، والمَلوى: هي الصوت المفتول المحكم، كذلك المحصد، والقد: أي: الجلد المشقوق. يتحدث طرفة عن ناقته فيقول: إن شئت الإرقال أرقلت، وإن شئت عدم الإرقال لم ترقلي، فطوى مفعول المشيئة في الموضعين، كما ترى وفي طيه إبهام أزاله وأبهمه جواب الشرط، ومثله قول البحتري:
لو شئتَ لم تفسد سماحة حاتم ... كرمًا ولم تهدم مآثرَ خالد
يصف ممدوحه: بأنه قد بلغ الغاية في الكرم والمجد، حتى فاق شهرة حاتم وخالد فيهما. والأصل لو شئت عدم إفساد سماحة حاتم وعدم هدم مآثر خالد لم تفسد ولم تهدم، فأبهم بحذف المفعول ثم بين بجواب الشرط.
يقول عبد القاهر: الأصل: لا محالة، لو شئت ألا تفسد سماحة حاتم لم تفسدها، ثم حذف ذلك من الأول؛ استغناءً بدلالته في الثاني عليه، ثم هو على ما تراه وتعلمه من الحسن والغرابة، وهو على ما ذكرت لك من أن الواجب في حكم البلاغة ألا ينطق بالمحذوف ولا يظهر إلى اللفظ. فليس يخفى أنك لو رجعتَ فيه إلى ما هو أصله، فقلت: لو شئت ألا تفسد سماحة حاتم لم تفسدها صِرت إلى كلام غث، وإلى شيء يمجه السمع وتعافه النفس، وذلك أن في البيان إذا ورد بعد الإبهام وبعد التحريك له أبدًا لطفًا ونبلًا لا يكون إذا لم يتقدم ما يحرك. وأنت إذا قلت: لو شئت، علِم السامع أنك قد علقت هذه المشيئة في المعنى بشيء، وهو يضع في نفسه أن ها هنا شيئًا تقتضي مشيئته له أن يكون أو لا يكون، فإذا قلت: لم تفسد سماحة حاتم، عرف ذلك الشيء.
كذا في (الدلائل).