هذه القيود هكذا عَبَثًا، وإنما المقام هو الذي يملي عليك تلك الزيادة ويقتضيها، فأنت إذا أردت أن تخبر عن رؤيتك لزيد تقول: رأيت زيدًا. فإذا أردت أن تؤكد تلك الرؤية، قلت: رأيته بعيني، فزيادة الجار والمجرور أفادت تأكيد الرؤية التي اقتضاها المقام.

وتأمل معي قول الله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) تجد أن القول لا يكون إلا بالفم، والقلب لا يكون إلا في الجوف، ولما كان المقام مقام إنكار وزجر لمن يظاهر زوجه قائلًا لها: أنت عليَّ كظهر أمي، ولمن يجعلون الدعي ابنًا ويسوون بينه وبين الابن، فقد ذكر هذين القيدين في جوفه بأفواهكم؛ تأكيدًا للإنكار، ومبالغةً في الردع والزجر، ثم انظر إلى هذا القيد: {لِرَجُلٍ}، وتأمل فرق: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}، وبين: ما جعل الله من قلبين في جوف، فستراه دقيقًا لطيفا، أن ذكر هذا القيد لرجل، وتقييد الجعل به أبلغ في الإنكار، وآكد في الرجع والزجر؛ إذ المرأة قد يتصور وجود قلبين في جوفها: قلبها وقلب جنينها عندما تكون حاملًا، أما الرجل فلا يتصور وجود قلبين في جوفه بحال من الأحوال؛ ولذا كان تقييد الجعل به أشدَّ في الإنكار وأقوى في الزجر والردع.

وكذا القول في قول الله تعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} (النور: 15). فقد ذكر هذين القيدين: {بِأَلْسِنَتِكُمْ}، {بِأَفْوَاهِكُمْ}، فأكد الإنكار والزجر، إذ الآية في سياق الحديث عن أولئك الذين خاضوا في حادثة الإفك، والتلقي لا يكون إلا بالألسنة والقول لا يكون إلا بالأفواه، فذِكر هذين القيدين فيه مزيد من الردع والتوبيخ الذي اقتضاه المقام.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015