وتأمل قوله -عز وجل- بعد ذلك: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} (النور: 16) تجد تميز الحدث وكمال إبرازه بالإشارة إليه أن نتكلم بهذا: {سُبْحَانَكَ هَذَا}، قد جعل الحكم عليه بأنه بهتان عظيم يقع موقعه في الأنفس، ولا يخفى عليك ما وراء الإشارة من تحقير وإهانة لمن خاض في هذه الحادثة.
ومن دواعي تعريف المسند إليه بالإشارة أيضًا قصد التعريض بغباوة السامع، وأن الأشياء لا تتميز عنده إلا بالإشارة الحسية كقول الفرزدق يهجو جريرًا ويفتخر عليه:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... إذا جمع ت نا يا جرير المجامع
فهنا يخاطبه قائلًا: أولئك الذين عرفت ما لهم من القدر العظيم، وعلمت ما بلغوه من الشرف الرفيع، هم آبائي الذين أعتز بهم وأفخر، فهل تستطيع يا جرير ولن تستطيع أن تأتي بأمثالهم من آبائك إذا جمعتنا مجامع الفخر والمساجلة؟ فالأمر في قوله: فجئني؛ للتعجيز، والشاهد في البيت هنا أولئك آبائي حيث عرف المسند إليه بالإشارة؛ قصدًا إلى التعريض بغباوة السامع، وأنه لا يدرك إلا المحس لحاسة البصر؛ لأن المشار إليهم غائبون لموتهم، وفي التعريف بالإشارة أيضًا تعظيم للآباء. وهذا سر آخر، ومعلوم أن النكات البلاغية لا تتزاحم.
ومن هذا قصد تعظيم المسند إليه أو تحقيره بتعريفه باسم الإشارة الموضوع للقريب، بيان ذلك: أن أسماء الإشارة -كما نعلم- منها ما هو موضوع ليشار به إلى القريب مثل قولك: هذا زيد، ومنها ما هو موضوع للبعيد مثل: ذلك عمرو، ومنها ما هو للوسط بين القرب والبعد مثل: ذاك بشر، فيعرف المسند إليه