وننتقل الآن بعد هذه الإلمامة عن جهود البلاغيين، وعن أهم ما كتب في علوم البلاغة، للحديث عن الفصاحة باعتبارها جزءًا وقيدًا في تعريف البلاغة، كما سنعرف فيما بعد، وللحديث أيضًا عن علاقتها -أي الفصاحة- بالبلاغة؛ إذ من المعلوم أن طائفة من البلاغيين ظلت حتى عصر عبد القاهر الجرجاني لا تفرق بين الفصاحة والبلاغة؛ لالتقائهما في الإبانة عن المعنى وإظهاره، وإن فرق بينهما المعنى اللغوي، ومن هؤلاء عبد القاهر الجرجاني نفسه، فإنه لم يكن يفرق بين المعنيين؛ حيث فسر الفصاحة في (دلائل الإعجاز) بأنها خصوصية في نظم الكلم، وضم بعضها إلى بعض على طريقة مخصوصة. ولكن طائفة أخرى من البلاغيين كانت تصر على التفريق بين المعنيين وفاء بحق المعنى اللغوي لكل منهما، ومن هؤلاء أبو هلال العسكري المتوفى سنة 395، فقد فرق بينهما موضحًا أن الفصاحة مقصورة على اللفظ، والبلاغة مقصورة على المعنى إلى أن حسم هذا الأمر معاصر عبد القاهر الجرجاني ابن سنان الخفاجي المتوفى سنة 466.
الفصاحة في اللغة: هي الظهور والبيان ويوصف بها الكلمة والكلام والمتكلم. فيقال: كلمة فصيحة، وكلام فصيح، ومتكلم فصيح، والبلاغة في اللغة تنبئ عن الوصول والانتهاء والإتقان والجودة، ويوصف بها الكلام والمتكلم فقط. فيقال: كلام بليغ، ومتكلم بليغ، ولم يسمع كلمة بليغة إلا أن يقصد بالكلمة خطبة أو قصيدة، فيكون من المجاز أعني من إطلاق الجزء وإرادة الكل.